امتد الفكر الوحدوي للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، من البعد الوطني الإماراتي، إلى الخليجي والعربي، حيث قدم رؤية متكاملة لأبعاد استراتيجية الوحدة الشاملة، في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وصولاً إلى تعزيز مكانة المنطقة وإشراكها في صناعة القرار على الصعيد الدولي، عبر تحقيق قفزة تنموية وردع الأخطار والتهديدات وحماية التماسك الاجتماعي في دوائره الوطنية والخليجية والعربية. في هذا الإطار، شهدت منطقة الخليج العربي تسارعاً في المتغيرات السياسية والأمنية منذ مطلع السبعينيات، وأسست على الفور مسيرة نهضوية مستفيدة من تصدير النفط وتمويل عمليات التنمية المحلية من هذه العائدات، الأمر الذي جعل نمو وتيرة استثمار العائد المالي للنفط في دول الخليج العربية، في مشاريع البنية التحتية المحلية، عالية للغاية مقارنة مع دول الجوار، منها العراق وإيران، حيث انخرط البلدان في مظاهر التسليح العسكري حيث بات هذا الهاجس أولوية، على خلاف دول الخليج التي وضعت أولويتها في توازي مساري الاستقرار والتنمية. أدى هذا التمايز بين النموذجين إلى تقارب أكبر بين دول الخليج العربية، مقابل توتر أكبر في المنطقة المحيطة، فسرعان ما سقط نظام الشاه في إيران، ثم اندلعت الحرب العراقية الإيرانية مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
كان هذا التوتر الإقليمي لحظة حاسمة التقطها قادة دول الخليج، وفي المقدمة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، لقيادة شعوب الخليج إلى بر الأمان وردع نيران الصراعات الإقليمية، ومنعها من التمدد إلى دول الخليج، ومواصلة برامج التنمية الاقتصادية وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي بين شعوب الخليج الشقيقة.
وفي ظل الاعتبارات الاقتصادية والجغرافية والسياسية، برزت أهمية وجود كيان جماعي، يعبر عن المصالح المشتركة لتلك الدول، ويتفاعل مع الأحداث الدولية والإقليمية المحيطة تأثيراً وتأثراً. وهو الأمر الذي تبلور في إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مايو 1981. وهناك إجماع بين المؤرخين والكتاب وموثقي تلك المرحلة على ريادة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في طرح فكرة تأسيس المجلس.
في كلمته بالقمة الأولى قال الشيخ زايد رحمه الله: «إنني على أمل كبير في أن ينجح هذا المؤتمر وأن يتطور مجلس التعاون الخليجي ليصبح منظمة فعالة ومنتجة تستفيد منها كل دولة من دولنا الست». استمر الشيخ زايد، رحمه الله، طوال ربع قرن منذ تأسيس المجلس وحتى وفاته، متمسكاً بأهداف المجلس، ومدافعاً قوياً عن كل ما من شأنه تعزيز مسيرته في تحقيق الأمن والاستقرار لدوله وشعوبها وبناء قواعد ثابتة لتحقيق الرفاه والتقدم لها، وإغلاق الباب أمام كل محاولة للنيل منها. ولعل من أهم المواقف التي عاشها، إقرار الاتحاد الجمركي الذي وحد التعرفة الجمركية، وإقرار سياسات الدفاع المشترك بإنشاء قيادة مشتركة وشبكة دفاعية مشتركة والتي انتهت بتشكيل قوة درع الجزيرة، نتيجة اجتماعات متواصلة لمدة أربع سنوات ابتداء من عام 1983، وهو ما أعطاه مساحة واسعة للمشاركة في حرب تحرير الكويت، ولتكون قوات الإمارات المسلحة أول من يصل إلى المملكة العربية السعودية للانضمام إلى القوات المشتركة.
استشراف المستقبل
امتازت رؤية زايد بن سلطان باستشراف دقيق للمستقبل من زاوية مصالح دول وشعوب الخليج، ومن هنا كان النهج الذي يسير عليه يؤكد أن الأهداف المنشودة لرخاء واستقرار المنطقة لن تتحقق إلا بتنسيق الجهود في إطار مجلس التعاون ودفع جهوده وضرورة دعمه لتحقيق أقصى ما يمكن من خطوات. فمجلس التعاون لا يشكل فقط منظمة إقليمية جديدة، بل يعتبر إضافة درع واق جديد لجسد الأمة العربية وجزءاً من الجهد العربي المتواصل لتجميع إمكانات هذه الأمة.
الأمن الخليجي
أوضح الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رؤيته للأمن الخليجي خلال حضوره مؤتمرات دولية عديدة، ومنها كلمة دولة الإمارات في قمة عدم الانحياز في نيودلهي عام 1983، بعد نحو عامين من تأسيس مجلس التعاون، وفي خضم اندلاع حروب طاحنة في المنطقة، منها الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، والحرب العراقية الإيرانية، وزيادة التنافس الدولي على المنطقة.
لقد حذر الشيخ زايد مبكراً من مخاطر التنافس الدولي على دول وشعوب الخليج. فبعد تأسيس مجلس التعاون، كانت الأولوية هي الحفاظ على هذا الكيان الإقليمي الرادع للمخاطر. ففي كلمة دولة الإمارات في قمة عدم الانحياز، والتي صاغها رئيس الدولة الراحل، المغفور له الشيخ زايد، بحنكة وذكاء. فقد استثمر عضوية الإمارات في مجموعة عدم الانحياز من أجل تعزيز الحضور الخليجي وحماية التجربة السياسية لمجلس التعاون. فقد عبّر عن قلقه من قيام بعض الدول الكبرى بالتدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الشؤون الداخلية لدول أخرى، بل وبالاعتداء عسكرياً عليها. وأوضح في كلمة دولة الإمارات، «إن هذا التدخل يمثل خرقاً لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ عدم الانحياز والاتفاقيات الدولية التي تنص على عدم التدخل وعلى حق كل دولة في اختيار نظام الحكم الذي ترغبه، لهذا فإننا نشجب هذا التدخل بجميع أشكاله وصوره».
الواقع أن الشيخ زايد، رحمه الله، وفي كل خطاب وجهد سياسي له، يكون مجلس التعاون وحماية الخليج من العواصف الإقليمية الهوجاء، أولوية له، فحتى وهو يسرد هواجس ضمن منظومة عدم الانحياز، فإنه يقترب شيئاً فشيئاً من إيجاد صلة بين مضمون التعاون الخليجي ودول عدم الانحياز، ومن هذا المنطلق، فإنه استطرد في كلمته ما يربط بين مصالح المحورين، الخليجي وعدم الانحياز، في ذكاء سياسي ينم عن اقتدار في فهم المعادلات الدولية:
«إن آثار هذا التدخل وأخطاره لا تقتصر في مداها البعيد على الدول ضحية التدخل، وإنما تشملنا جميعاً، وبالذات دول العالم الثالث، ولقد شاهدنا مثلاً حياً على هذه الظاهرة، وهو تصعيد الوجود العسكري للدول الكبرى في منطقتنا، ولذلك فإن دولة الإمارات، انطلاقاً من التزاماتها العربية وعضويتها في حركة عدم الانحياز، تؤمن بأن أمن الخليج مسؤولية قاصرة على دوله وحدها، ولهذا فهي ترفض الانضمام إلى أية أحلاف عسكرية كما ترفض تدخل أية دولة أجنبية في شؤونها الداخلية».
مجلس التعاون.. قوة إقليمية
إن كلمة المغفور له الشيخ زايد في قمة عدم الانحياز، تمثل الوجه الأوضح لمجلس التعاون، فقد أراد الشيخ زايد أن يكون المجلس قوة وازنة في المعادلة الإقليمية، وليس جزءاً تابعاً لحلف دولي في وجه حلق دولي آخر. هذه النزعة الاستقلالية تمت ترجمتها عملياً في مبادئ مجلس التعاون، ومواقفها السياسية في الأحداث الإقليمية، وكذلك التوتر العالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. لقد أسس زايد لرؤية استقلالية لمجلس التعاون، مع حق المجلس في عقد التحالفات بما يحفظ أمن دوله ومصالح شعوبه، وبما يجنّبه نيران الصراعات الإقليمية.
وكان مؤمناً أن مصير الخليج واحد، لذلك من الملفت أن في كلماته خلال مسيرته، لا يمكن العثور على تمايز بين مصلحة الإمارات ومصلحة دول الخليج. في كل الحالات، المصلحة واحدة، لأن الرؤية واحدة، والمصير واحد. لذا، حين عبر زايد عن قلقه إزاء الحرب العراقية الإيرانية التي مضى عليها عامان (عام 1983)، والتي تمثل استنزافاً للقوى البشرية والاقتصادية لكلا البلدين، فإنه شخّص تداعيات هذه الحرب الحرب بنتائجها المتوقعة إقليمياً، فهي «تهدد أمن واستقرار منطقة الخليج التي تمثل أهمية استراتيجية واقتصادية ليس لدول المنطقة فحسب، وإنما للعالم أجمع».
البيت العربي الكبير
عمل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، على الدمج بين مفهومي الأمن الخليجي والأمن العربي، وذلك انطلاقاً من رؤيته القومية في حماية البيت العربي الكبير، وعدم ترك أي ثغرة للتدخلات الخارجية، لذلك فإنه شخّص بعمق في تصريح له قبيل القمة الخليجية في الدوحة في نوفمبر 1983، الرؤية الفلسفية لمجلس التعاون باعتباره «درعاً إضافية وجديداً لجسم الأمة العربية وتعزيزاً لجناح من أجنحة الوطن العربي وجهداً متواصلاً لخدمة قضايا أمتنا العربية».