تحمل الكتب خلاصة فكر الشعوب ومعارفها، توثق تجاربها وعبر صفحتها تكشف هذه الشعوب عن وجدانها، فالكتب هي شهادة عبور المبدع إلى العقول، ورسائل إلى الأمم الأخرى، وعبر سطورها تُبنى علاقات وتقام حدود التعارف، وتظهر الطموحات المشتركة، وهنا تكمن أهمية صناعة النشر..والتي واكبتها دولة الإمارات العربية المتحدة بقوة وحضور مؤثر بفعل مؤسسات ومبادرات متنوعة توفرت في ظل خيرات وخطط اتحاد دولة الإمارات العربية، حيث حفزت الكتاب لتكثيف منشوراتهم وقدمت لهم الدعم الشخي، كما أطلقت مبادرات متنوعة لدعم الناشرين، وتجلى ذلك في إحدى أكثر الصور قوة وتأثيراً بالمبادرات الخاصة لوزارة الثقافة والشباب في الدولة.

وقد بلغت هذه الصناعة الفكرية في الدولة، جملة آفاق ونوعية ثرية، بوأتها مراكز الصدارة عربياً..وفي المنطقة عموماً..وقد تواصل وتجلى ذلك في مفردات شتى تجسدت مع مراحل متقدمة على صعيد النشر الإلكتروني، خاصة في ظل إسهامات وجهود كافة المؤسسات الاتحادي والمبادرات الريادية للشيخة بدور بنت سلطان القاسمي رئيسة الاتحاد الدولي للناشرين «2021 - 2022».

ومما لا شك فيه أن الإمارات مقبلة، بفضل خططها وطموحاتها المتفردة بالمجال، على نجاحات نوعية في صناعة النشر، ترسخها سباقة ورائدة دولياً خاصة والعالم يشهد سباقاً محموماً في قطاع النشر الإلكتروني، والذي قطعت فيه الدولة نجاحات قياسية متميزة، إلى غاية الآن.

اهتمام نوعي

اهتمت الإمارات بصناعة النشر بشكل نوعي، منذ البدايات، في ظل مؤسسات الاتحاد ومبادراته، وفتحت أبوابها واسعة أمام الكتاب والمؤلفين وأشعلت محركات الترجمة، وحفزت الكتاب على الإبداع، وفتحت المكتبات، وأقامت معارض الكتب، ومهدت الطريق أمام دور النشر التي تشكل العمود الفقري لهذه الصناعة، التي نجحت في مواكبة التطور، ودخول معارك الكتاب الإلكتروني بمواجهة الورقي، ولكن في النهاية يظل المنتصر هو الكتاب، وأولئك الذين تعودوا أن يتوسدوه في حلهم وترحالهم.

صناعة النشر في الإمارات رغم حداثتها مقارنة مع غيرها من الدول، استطاعت أن تنشط سريعاً، رغم جملة المصاعب التي اعترضت طريق دور النشر التي مضت في هذا الطريق، ففي الإمارات حالياً أكثر من 166 داراً تعمل في صناعة النشر، وفق ما بينته إحصاءات جمعية الناشرين الإماراتيين.

مشروع ثقافي

قفزات نوعية حققتها صناعة النشر في الإمارات خلال السنوات الماضية، شهدت خلالها ارتفاعاً ملحوظاً في حجم الاستثمارات بهذه الصناعة، في ظل ارتفاع نسبة الإقبال من الشباب الإماراتي على الانضمام إلى ركبها، وتوضح إحصاءات نشرتها مدينة الشارقة للنشر في نهاية 2019، بأن نمو قطاع صناعة النشر في الإمارات سيرتفع من 260 مليون دولار إلى 650 مليون دولار بحلول 2030، وهو رقم ليس بالهين. دراسات مدينة الشارقة للنشر بينت أيضاً أن صناعة النشر تشهد إقبالاً متزايداً من الشباب، ما يزيد من ثراء روافد مشروع الإمارات الثقافي.

وخلال السنوات الأخيرة، نجحت الإمارات في خطف الأضواء، وتمكنت من استقطاب الناشرين، بسبب اهتمامها اللافت بتنظيم معارض الكتب، والجوائز الأدبية التي مثلت حافزاً للكتاب والناشرين على حد سواء، ليصب ذلك في مصلحة صناعة النشر المحلية التي سعت إلى تطوير منظومة عملها وتنويع إصداراتها، حتى في ظل انتشار أزمة «كوفيد 19» التي ألقت بظلالها على هذه الصناعة، وأضرت بمصالح الكثير من الناشرين، فقد بادرت الإمارات إلى تأسيس «صندوق الأزمات للناشرين»، والذي قاد صناعة النشر المحلية نحو منطقة الأمان، حيث بدا هذا الصندوق أشبه بعملية «إسعاف» للقطاع، وإنعاش له، لا سيما بعد رصد ميزانية تقدر بنحو مليون ومئتي ألف درهم، لدعم الناشر الإماراتي.

استقطاب

يرى الكاتب الدكتور حمد الحمادي، في حديثه مع «البيان»، أن «صناعة النشر في الإمارات تطورت بشكل متسارع خلال الفترة الماضية»، ويؤكد أن «صناعة النشر في الإمارات من حيث عدد دور النشر ونشاطها وآليات عملها الآن لم تعد كما كانت عليه قبل عشر سنوات»، وتوقع أن المستقبل يحمل الكثير من الفرص لدور النشر المحلية، حيث قال: «اليوم ومع وجود مسرعات تقنية امتدت إلى عالم النشر، فإن المستقبل يحمل لدور النشر الكثير من فرص التنافس على المستويين الإقليمي والعالمي، فمن الجانب الجغرافي يتوقع أن تتمدد دور النشر الإماراتية بشكل أوسع إقليمياً وعالمياً، وأن تنتقل من مرحلة استقطاب الكتاب الإماراتيين والتركيز على السوق المحلي إلى منافسة دور النشر العالمية في استقطاب الكتاب من مختلف دول العالم»، ويشير د. الحمادي إلى أن ذلك سيمكن دور النشر المحلية من «تبني مفهوم السوق العالمي المفتوح بدلاً من التركيز المحلي»، أما على صعيد الجانب التقني، فتوقع د. الحمادي أن «البقاء سيكون لدور النشر التي تتبنى التكنولوجيا بشكل أكبر». وبين أنه في المستقبل «ستكون هناك أنظمة تتبنى البيانات الكبيرة وتربط مختلف مكونات عملية النشر، وتربط دور النشر بالموزعين والمكتبات والكتاب».

وتابع: «من الوارد جداً أن ينحسر دور دور النشر بشكل كبير بحيث تتيح التكنولوجيا التواصل المباشر بين الكاتب ونقاط البيع من خلال مفهوم (الطباعة عند الطلب) الذي ستدعمه تكنولوجيا الطباعة المتطورة والسريعة ومعقولة التكلفة، بحيث يمكن أن تباع الكتب في آلات بيع تقوم بطباعة الكتاب المطلوب في لحظة طلبه».

عملية التحول

يرى محمد عبد الله نور الدين، أحد مؤسسي دار نبطي للنشر، فإن معظم دور النشر ستتحول مستقبلاً إلى النشر الرقمي. وقال: «لن يكون إنتاج دور النشر مستقبلاً قاصراً فقط على الكتاب الورقي، وإنما سيكون لها خط إنتاج رقمي، سواء في الكتب الإلكترونية أو المسموعة أو حتى المرئية»، ويبين نور الدين أن قطاع النشر كان سباقاً في التحول الرقمي ليس فقط على مستوى الإمارات، وإنما على مستوى العالم.

نور الدين يؤكد أن هذا التحول لن يؤدي إلى اختفاء الكتاب الورقي كلياً، وإنما ستكون الغلبة لصالح كفة الكتاب الإلكتروني.

ويقول: «بحسب تقديراتي فإن الكتاب الورقي لن يختفي من الوجود، ولكن عدد النسخ المطبوعة سيقل بشكل ملحوظ، في ظل صعوبة إيجاد أماكن كافية للتخزين، في حين أن كلفة طباعته سترتفع، وهذا بلا شك يصب في صالح الكتاب الإلكتروني، والذي أتوقع أن يتصدر المشهد خلال المستقبل..وبلا شك فإن أزمة (كوفيد 19) قد ساهمت في تسريع عملية التحول واختصار السنوات، حيث احتجنا إلى عام واحد فقط من أجل التحول، وبتقديري أنه لو لم تطل هذه الأزمة لكان هذا التحول يحتاج على الأقل إلى عقد كامل»، مبيناً أن الأزمة قد شكلت وغيرت من سلوكيات القارئ أو المستهلك.

جهود ودعم

من خلال سلسلة مبادراتها النوعية، سخَّرت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي رئيس الاتحاد الدولي للناشرين "2021-2022"، كل إمكاناتها لدعم صناعة النشر والناشرين على المستويين المحلي والعالمي أيضاً، ونجحت في تطوير وتحفيز صناعة النشر في الإمارات، وذلك بفضل إيمانها بأهمية هذه الصناعة، وبقدرة الكتاب على تعزيز الوعي، وتوسيع مدارك المعرفة لدى الشعوب، ومع توليها رئاسة الاتحاد الدولي للناشرين، أعلنت عن اهتمامها بالمساهمة في صياغة مجموعة من البرامج والأفكار الهادفة إلى مساعدة الناشرين، على تخطي آثار أزمة «كوفيد 19»، ومساعدتهم في عملية الانتقال السلس والتدريجي نحو المستقبل.

الشيخة بدور القاسمي، سعت جاهدة لتوفير البيئة الآمنة والخصبة لدور النشر في الإمارات، وبلا شك، فإن توليها لمنصب رئاسة الاتحاد الدولي للناشرين، لتصبح أول سيدة عربية تتولى رئاسة الاتحاد منذ تأسيسه في 1896، وثاني امرأة على مستوى العالم، سينعكس إيجاباً على صناعة النشر في الإمارات والعالم.