قدّم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، نهجاً مبتكراً في البعد العربي من فكره السياسي، وبنى فلسفته السياسية ليس على شعارات غير قابلة للتطبيق، وخطابات إعلامية لا تنعكس على أرض الواقع، إنما على توحيد الطاقات العربية المشتتة، والعمل على وضعها في مسار موحد، بطاقة كاملة في النهضة والتنمية والتقدم، في المجالات كافة، عبر تحرير الطاقات العربية من السياسات الأحادية قصيرة النظر، وإيقاف عملية استنزاف الإمكانات العربية في الصراعات العربية.

لقد كان مسار النهضة العربية مشروطاً بعد هدر طاقات العرب وتشتيتها في التنافس المحلي العربي إذ إن الخلافات والأطماع الخارجية تتحد في إعاقة مستقبل مشرق للعرب.

ولذلك، عمل المغفور له على التحذير المستمر من الأخطار المحيطة بالعرب، إقليمياً ودولياً، إذ رأى الشيخ زايد أن انشغال العرب بخلافاتهم الداخلية يفتح شهية الطامعين من الخارج، ولذلك دأب المغفور له على طرح مبادرات متعددة للتوفيق بين المختلفين العرب، وحل التوترات السياسية عبر الحوار وتوحيد الجهود في سبيل رؤية استراتيجية عربية.

عزم صادق

شملت تحركات زايد الأصعدة كافة لتنسيق الجهود بين الدول العربية لمواجهة التحديات، والمحافظة على مصالح الشعوب العربية، وحماية أمن واستقرار المنطقة، بعيداً عن صراعات القوى الخارجية. واتبع زايد منهج التحرك من الدوائر الأقرب إلى الأبعد، وبدأ على الصعيد الخليجي ثم الانطلاق إلى البعد العربي في جهود توحيد مسارات النهضة.

تأتي في مقدمة تحركات زايد الزيارات واللقاءات العديدة التي عقدها سموه مع إخوانه حكام دول الخليج، والمبادرة لحل كل مشكلة طارئة تعكر صفو العلاقات بين أبناء الخليج، وكان أسلوبه في ذلك دائماً عربياً نابعاً من صدق عروبته وإسلامه، واتسم بالعزم الصادق على تصفية الخلافات بين الأشقاء ووضع المصلحة القومية فوق كل اعتبار.

عمل رحمه الله الكثير في هذا الصدد؛ لأن المسألة لديه مسألة شخصية الرجل العربي المسلم، الذي يعود تاريخه إلى تاريخ وجود الإنسان على هذه الأرض، ومن بين ما تحدَّث عنه بعد نحو شهر من قيام دولة الاتحاد، وبالتحديد يوم الخامس من شهر يناير عام 1972، أهمية التضامن العربي، فقال: لقد واجه أسلافنا بلا شك في الماضي تحديات وقوى معادية، واستطاعوا أن يتغلبوا عليها، وفي الوقت الحاضر فإنَّ القوى التي نواجهها قوى ضخمة، وذلك يستدعي مِنَّا جميعاً الحرص على كياننا بحد السيف، للحفاظ على ماضينا الذي يشير بالمجد والفخر، وهذه مسؤولية يتحملها الآن الملوك والرؤساء العرب، على كلٍّ منهم أن يصلح بينه وبين أخيه حتى يقوى العرب، وإذا كان هناك معوقات، بحيث يصبح كلُّ واحدٍ مِنَّا كالوالد الحريص على أبنائه.

ثمَّ تساءل زايد: كيف تقوى الآمال؟ وأجاب: إنَّ العرب لن يصبحوا أقوياء إلا إذا تمَّ تصفية أيِّ خلافات أو اصطدامات بينهم، ومن هنا فإنني أدعو إلى لقاءات عربية مخلصة لتصفية أيِّ خلافات بيننا.

جسور العون والمودة

لقد آمن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، بأن دولة الإمارات جزء من الأمة العربية، تربطها بشعوبها وشائج وطيدة من القرابة واللغة والتاريخ والتراث الحضاري والآمال المشتركة، ولذلك كانت حركته شاملة ومستمرة من أجل الحفاظ على وحدة الصف العربي.

حرص رحمه الله على تقديم مختلف أسباب الدعم المادي والمعنوي للأشقاء العرب في جميع المجالات: المجهود الحربي، والتصنيع، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومن ينسى صرخة زايد في حرب أكتوبر المجيدة: النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي، وكان ذلك إيذاناً بالمبادرة التي قادها رحمه الله لقطع النفط كنوع من المشاركة الاستراتيجية في حرب أكتوبر.

وأسهمت جهود زايد في مد جسور المودة بينه وبين كل الدول العربية، لأن مبادئ زايد هي الترفع عن التورط في أي نزاع بين الأشقاء، بل إن دوره دائماً أن يصلح بينهم، ولا ينبغي أبداً مناصرة أحد ضد الآخر، إلا ردعاً للعدوان السافر كما في حالة النظام العراقي السابق في الغزو الإجرامي لدولة الكويت الشقيقة.

ولم يتردد في إرسال قوات لفض النزاعات العربية، إذ كانت دولة الإمارات من أوائل الدول التي أقرت إرسال قوات إلى لبنان عام 1976 ضمن قوات الردع العربية لوضع حد للقتال بين اللبنانيين، وقال زايد يومها: لا نقبل أن يراق الدم العربي، وأن يرفع العربي السلاح في وجه أخيه.

ووضع الشيخ زايد كل إمكانات دولة الإمارات لتحقيق الوفاق بين الأشقاء وتعزيز الصف العربي وحشد القدرات العربية للتصدي للتحديات الخطيرة التي تواجهها الأمة العربية. وأكد في لقائه مع السفراء العرب بالمملكة المغربية في 22 نوفمبر 1997 أن دولة الإمارات سعت وتسعى دائماً للعمل على تنقية الأجواء العربية.. وأن جهود الدولة في هذا الإطار مستمرة ولا تدخر جهداً من أجل بذل الغالي والنفيس لتوفير أسباب جمع الشمل وإعادة ترتيب البيت العربي.

لقد اعتمدت دولة الإمارات مبادئ ثابتة في سياستها الخارجية.. إقامة الحوار والجسور.. ودبلوماسية متزنة ومتوازنة ذات مصداقية.. تشارك في الحركة العربية ولكنها تظل خارج الصراعات لتساهم في تطويقها وحلها، وحرصت في سعيها إلى تحقيق الوفاق والتضامن على البعد عن المحاور والنأي بنفسها عن دائرة الخلافات.

زايد والشعوب العربية

والحق أن زايد أسس القوة الناعمة لدولة الإمارات عبر جهود الخير العربية، وحظيت دولة الإمارات بسمعة طيبة بين الشعوب العربية منذ تأسيس الاتحاد. فتخطى فكر زايد حدود اللقاءات السياسية، ودخل بيت كل عربي حيث لهجت باسمه الألسن.

وقد شارك زايد بفاعلية في كل جهد لتحويل التيار الذي قاسى العالم العربي من جرائه الفرقة والتجزئة، وتوجيهه الوجهة الصحيحة، ليكون فاتحة لعصر جديد تستطيع الأمة العربية أن تلعب دورها التاريخي في بناء الحضارة الإنسانية.

خلال رصد مسيرة دولة الإمارات منذ التأسيس على يد الشيخ زايد وإخوانه حكام الإمارات، لمع نجم زايد بين الشعوب العربية إلى أن بات نموذج حكمه مثالاً يشار له بالبنان، ذلك أن نهضة الإمارات التنموية لم تشهد أي تعثر منذ انطلاقتها الكبيرة في عام 1971، وهو نموذج فريد عربياً، لا هدر فيه للطاقات، ولا تبذير للنعمة، فكان زايد بحق يمثل في وجدان الشعوب العربية مثال الحاكم العربي الرشيد.

ومن هذا المنطلق، تضع تجربة الشيخ زايد في الحكم النظام السياسي العربي أمام المساءلة لدى الشعوب العربية التواقة إلى النهضة والتحرر ليس فقط من الاستعمار البائد، بل من الفقر أيضاً. ولا تزال تشكل منجزات زايد حكماً وشاهداً على مسار العمل السياسي العربي، الأمر الذي سيغير حتماً دور القادة في المستقبل، كما يحسم مسألة الزعامة لجهة تأكيد شرعية وجودها من أعمالها، وتحديداً استمرار الدول في الاستقرار والتنمية.

دعوات للمراجعة

حرص الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في كل مناسبة على دعوة إخوانه القادة العرب إلى مراجعة شاملة للموقف العربي واتخاذ القرارات الصائبة والعدول عن طريق الخسارة بالعقل والتحرك الواعي وتعويض ما مرَّ على العرب من خسارة لدعم المصالح المصيرية المشتركة.

ويؤكد في هذا الخصوص بالقول إن الأمة العربية كبيرة في حجمها وثرواتها وخيرها ولله الحمد.. ويجب علينا الالتزام بتحمل المسؤولية وأن نعدل عن طريق الخسارة والضعف الذي نسير فيه وأن نسعى بكل جهدٍ ممكن ومن دون إبطاء لتعويض ما مرَّ بنا من خسارة ونسير في طريق الصواب.

يضاف إلى ذلك أن فهم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، لطبيعة السلطة على المستوى الذهني، وتطبيقاتها على المستوى العملي، كشفا قدرته على استشراف المستقبل، وما كان بإمكانه تحقيق ذلك لولا وعيه بالماضي واستحضاره ليؤسس عليه الحاضر، وعلى عكس معظم التجارب العربية، فقد أسس للسلطة بما يحقق الشورى، بحيث لم تقتصر على البشر، بل تجاوزتها إلى الطبيعة. وكانت السلطة لدى الشيخ زايد تمثل قيمة أخلاقية، تجلت في علاقته بالإماراتيين أولاً، والعرب ثانياً، والآخرين ثالثاً، إذ عدّ الإنسان هو الهدف في عمله السياسي.