مبادرة النوابغ، التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ورصد لها مئة مليون درهم، تأتي ضمن سلسلة من المبادرات الخيّرة التي دأب سموه على إطلاقها في كل عام، لتذكير الأجيال الشابة في هذه الأمة، بأن أمتنا لا تزال بخير، وأن فيها من الطاقات الكثير، لكن هذه الكنوز المدفونة، وهذه العقول الجبارة، تحتاج إلى من ينفض عنها غبار النسيان والتجاهل، ويهيئ لها الأسباب كي تنطلق وتثمر؛ فشبابنا بحاجة إلى يد حانية تتلقف إبداعاتهم وتستكشف قدراتهم، يد بصيرة كاشفة دالة تمنحهم الثقة، وتعينهم على تحقيق الطموحات، وتوفر أرضية البحث العلمي، والإبحار في شتى العلوم والتقنيات.

تجارب ناصعة

فالأمم الناهضة، في عالمنا اليوم قدمت لنا تجارب ناصعة، ومن نسي التاريخ فليتذكر النهوض الياباني بعد الحرب العالمية الثانية وكيف أصبحت اليابان اليوم رابع أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين بعد أن كانت أمة محطمة منهكة لكنها لم تستسلم ولم ترفع الراية البيضاء، وما كان لها أن تقوم وتنهض لولا إيمانها بقدراتها واستغلالها لطاقاتها، وألمانيا التي خرجت مدمرة بعد الحرب العالمية الثانية، هي الأخرى نفضت عن نفسها غبار السنين العجاف، واستطاعت أن تقيم نهضة، وأن تعيد المجد الألماني إلى سابق عهده، وهي اليوم نموذج للاقتصادات العملاقة.

ولن نسهب في طرح الأمثلة، لكن أمتنا العربية اليوم هي الأخرى قادرة على النهوض ومجابهة التحديات التي تعد أقل بكثير مما عانت منه اليابان أو ألمانيا، فالإرادة تصنع المستحيلات، وأمتنا ذات إرادة صلبة، وهي كما كانت بالأمس صاحبة رسالة صدرت العلم والمعرفة لأوروبا في فترة من الفترات فهي اليوم، بمثل هذه المبادرات قادرة أن تستعيد مكانتها، وأن تحافظ على شبابها وتسخّر لهم أفضل العلوم والجامعات لتمكينهم من أفضل المعارف، وتنمية مهاراتهم ليكونوا مشاعل نور، تضيء أوطانهم بالمعرفة، والعلوم، وهذه النماذج من شبابنا المبدعين باتوا موجودين في الغرب في المستشفيات والجامعات، ونحن أولى بهم وبعلمهم.

تحريك للمياه الراكدة

لذلك، فهذه المبادرات مهمة ومقدرة، وهي تحريك للمياه الراكدة في عالمنا العربي، لإعطاء الشباب العرب الفرصة للتعبير عن أنفسهم وقدراتهم، وللنهوض بأمتهم وأوطانهم، فمبادرة النوابغ العرب التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، هي خطوة في هذا الاتجاه الذي يخدم شباب الأمة، ويتبنى طموحاتها، ويوفر أجيالاً من العلماء المبدعين، لتكون دبي حاضنة للنوابغ وبيتاً للمبدعين، وهي مبادرة للفت الأنظار إلى الشباب العرب وتنمية مواهبهم، وتهيئة الفرص أمامهم للتفوق والإبداع، والاستفادة من علمهم وخبراتهم حتى يكون لدينا بعد سنوات معدودات جيل متسلح بالعلم، قادر بعلمه وعمله على النهوض بالأمة وباقتصاداتها، فالعلم هو أمضى سلاح لمواجهة المستقبل.

أمل الأمة

إن الإنفاق على البحث العلمي، وتسخير الإمكانيات لبناء أجيال من العلماء في تخصصات شتى، هو أمل الأمة بالنهضة والنهوض، وهو استثمار بالمستقبل سيعود على الإمارات بالخير العميم، ولا يقولن أحد إن هذه المبادرات تحتاج إلى سنوات وسنوات، حتى تؤتي أُكلها، فإن أصحاب النفس الطويل هم من يتصدرون السباقات وهم الأكثر جلداً، وقدرة على مجابهة التحديات، لكن قناعتنا أن هذه الثمار، التي ستسفر عنها هذه المشاريع والمبادرات، ستصب في مصلحة الاقتصاد، بل ستحرك العجلة الاقتصادية، فالصناعات الحديثة تحتاج إلى عقول تصنع وتبتكر، وتحل المعضلات، وتضع الخطط وترسم السياسات، وتراجع الحسابات، وشبابنا مؤهل لصنع المعجزات إذا أتيحت لهم الفرص، وتسلحوا بالمهارات.

حاضنة المبدعين

مع انطلاق هذه المبادرة، تضيف دبي صفة إلى صفاتها الكثيرة، فهي مدينة الذهب، واليوم باتت حاضنة النوابغ وبيت المبدعين، تتلقف هؤلاء الشباب، وتفرش لهم السجاد الأحمر، ليعيشوا ويبدعوا، وينتجوا ويكونوا ضمن نسيجها المترابط، حيث تسعى المبادرة لاستقطاب 1000 نابغة عربي خلال 5 سنوات في مسارات رئيسية تشمل: الفيزياء والرياضيات، والبرمجيات وعلوم البيانات، والاقتصاد، والجامعات والأبحاث العلمية وغيرها، ودعمهم علمياً وبحثياً.

فكما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، فإن الأمة التي تقدر علماءها ونوابغها وتمكِّن صناع الحضارة ومفكريها هي في طريقها الصحيح للسيادة والريادة والتفوق في المستقبل، وهذا ما تسير لأجله هذه الأمة وهذا ما تعمل عليه دبي، بهمة ونشاط.. لقد خصص سموه 100 مليون درهم لهذه المبادرة الكريمة، وأعلن عن تشكيل لجنة من 4 وزراء للإشراف على تنفيذها لضمان نجاحها ومتابعتها مما يشكل نواة طيبة، يمكن البناء عليها مستقبلاً، فهؤلاء العلماء سيكون لهم شأن كبير في إحداث التغيير والتطوير والتحديث الذي تعمل عليه إمارة دبي تحديداً ودولة الإمارات عموماً، وهي تؤسس لما بعدها، فلا نهضة بلا علم، ولا ابتكار بلا علماء، ولا صناعة ولا زراعة من دون كوادر مؤهلة ومتسلحة بالعلم والمعارف لمجابهة التحديات.

متحف المستقبل

لقد اختار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد متحف المستقبل ليكون مقراً لهذه المبادرة، فالعيون كلها تتجه نحو المستقبل، المستقبل الذي يبنيه شبابنا الواعي والمثقف والمتعلم، والذي يطور ذاته وقدراته، ينافس، ويتفاعل مع أحدث التقنيات والنظريات العلمية، يشتغل بالمختبرات وفي كل موقع تحتاجه فيه اختيار المكان، لم يكن صدفة، بل هو بعد نظر، وإدراك بأن الأمة التي لا تخطط لمستقبلها، مصيرها الزوال، والاندثار، وأمتنا تسعى للنهوض، ولاستعادة دورها المفقود بعد أن كانت شعلة خير ونور للبشرية جمعاء.

عودة قوية

صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، بهذه المبادرات إنما يؤسس لهذه العودة القوية للأمة، عودة قائمة على التعاون والشراكة، والاستفادة من الآخر، وهو ما أشار إليه سموه، بالقول: «سيتم الاهتمام بهؤلاء النوابغ علمياً وبحثياً وربطهم مع أكبر المفكرين والعلماء والشركات في العالم وتطوير أفكارهم لتعظيم أثرهم الإيجابي على المنطقة».

تحتاج هذه المبادرة لعديد الوقفات والتحليلات، لكن لا بد من القول قبل الختام، إنه سيكون لها ما بعدها، وإنها تؤسس لنهضة حقيقية، وسيكون لها إسهامات في تحريك عجلة الاقتصاد؛ فالاقتصادات الناشئة تحتاج إلى عقول تدير وتخطط وتحسب، وتفاوض وتتعاقد، وتقوم بدراسات الجدوى، ومن أفضل من النوابغ لتصدر المشهد، وأخذ زمام المبادرة، ودولة يحظى فيها النوابغ بهذا التكريم، وهذا الاهتمام إنما تضع قدميها في المسار الصحيح، وهي من صعود إلى صعود، والأيام كفيلة، بكشف صوابية النهج والتوجه، فصناعة الحضارة، كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تبدأ بالبحث عن صنّاعها الحقيقيين.