منذ بضعة شهور، دأب قائد مجموعة فاغنر الروسية شبه العسكرية يفغيني بريغوجين على توجه انتقادات حادة لوزارة الدفاع الروسية، وشخص الوزير سيرغي شويغو، متهماً إياه تارة بالتقصير في إمداد قوات مجموعته بالذخائر، وتارة أخرى بالفشل في إدارة العملية العسكرية في أوكرانيا.
إلى ما قبل الساعات الأخيرة، كان كثير من المراقبين يدرجون تصريحات بريغوجين المتكررة في خانة توزيع الأدوار أو الإخراج المسرحي لتضليل الجانب الأوكراني وداعميه الغربيين.
هذا كله قبل أن يعلن بريغوجين ما يشبه التمرد المسلح ضد وزارة الدفاع الروسية، وإطلاقه سلسلة التهديدات حتى بالوصول إلى موسكو، وقد أعلن السيطرة على مقر القيادة في روستوف ومراكز عسكرية في مدن أخرى.
ومالم ينقشع ضباب هذا المستجد، تبقى الدوافع المحتملة لقائد "فاغنر" وجود خلافات أو تناقضات فعلية مع وزارة الدفاع، وقد تكون لديه طموحات بمنصب ما في مركز اتخاذ القرار العسكري، أو ربما في الأمر ابتزاز ذو طابع مالي أو طمع بمكتسبات من نوع ما، سيما وأن الحديث يدور عن "مجموعة"، والمجموعات محركها الربح ووقودها النفوذ.
ومهما كانت دوافع الخلافات والتناقضات والصراع، يبدو أن الكرة تدحرجت إلى ما وصلت إليه من تمرد مسلّح، وفقاً لما يطفو على سطح المشهد.
حظوظ المحاولة
إذا كان الأمر كذلك، ما هي حظوظ هذه المحاولة؟. وما هي انعكاساتها على العملية العسكرية في أوكرانيا والصراع مع الغرب؟.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خرج بخطاب ناري تحدث فيه عن خيانة وطعنة في الظهر، وتوعد بإنهاء التمرد واستعادة الاستقرار في روستوف، مركزاً على ضرورة نبذ الخلافات في مواجهة حرب، وقال إن الغرب يستخدم كل أسلحته فيها ضد روسيا. وهنا ينبغي الأخذ بالاعتبار الخلفية الأمنية لبوتين، وإلقائه الخطاب بعد قراءة المشهد بكل أبعاده.
الغرب، وإن أبدت دوله مواقف حذرة على قاعدة المراقبة "عن كثب"، يبدو مرتاحاً لهذا التطور، ويبني "آمالاً" معينة عليه، وبدأت بعض الجهات في الحديث عن احتمالات وما تحمله من نتائج إن حدث هذا الاحتمال أو ذاك.
بطبيعة الحال، في أحداث أمنية من هذا النوع، لا أحد يستطيع التكهن بالنهايات.
لكن في قراءة سريعة، ينبغي ملاحظة أن "فاغنر" مجموعة خاصة أو شركة وليست جزءاً من نسيج القوات المسلحة الروسية، وهذا يبعدها عن إمكانية امتلاك قدرات انقلابية، فضلاً عن أن عشرين أو ثلاثين ألف مقاتل، ليسوا القوة التي يمكن أن تنجح في التغلب على الجيش الروسي وتغيير الأوضاع في البلاد وحرف المسار الذي تسير فيه.
وهنا يجب العودة إلى تجارب سابقة، حيث حدثت محاولة انقلابية عام 1991 في الاتحاد السوفييتي، على يد قيادات وازنة، ولم يكتب لها النجاح، كما حدثت محاولة أخرى وإن كانت بطبيعة مختلفة، إذ كان طرفها البرلمان، وانتهت بالفشل كذلك.
وقد تكون المعطيات هذه المرة مختلفة، وبخاصة في ظل حرب أوكرانيا، لذلك يعتمد مسار الأمور على معطيات خلف الستار، منها ما يتعلق بطبيعة تحرك "فاغنر" إن كان مجرد قرار مغامر وغير محسوب، أو أن خلفه مخطط مدروس، وكذلك مدى ولاء أجنحة القوات المسلحة الروسية وتماسكها، ومدى إمكانية أن ينضم بعضها لـ"فاغنر" وحجم القوى المنضمة، سيما وأن في قوامها العديد من العناصر الذين كانوا سابقاً ضباطاً في الجيش الروسي.
في حال حدث هذا السيناريو، ربما نكون أمام حرب داخلية عسكرية، ولا أحد يستطيع التنبؤ بنتائجها.
في هذه المرحلة، وبعيداً عن الرغبات والأمنيات، من الصعب وضع سيناريوهات في اتجاه واحد.
ساحة أوكرانيا
أما انعكاسات ما يجري على ساحة القتال في أوكرانيا، فإن من المستبعد تأثير الحالة الناشئة وبمنسوبها الراهن، على هذه الساحة، سيما وأن بريغوجين نفسه قال في آخر تصريحاته الكثيرة إن ما تقوم به مجموعته لن يؤثر على العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، والتي يستخدمها أصلاً لتبرير مواقفه، باعتبار أنه يريد إنجازات أسرع وأكبر وخسائر أقل في صفوف الجيش الروسي.
على أية حال، ثمة في موسكو من يرى أن الحل يكمن في يد وعقل بوتين، خاصة أن بريغوجين لم يقل أو يفعل ما يشير إلى تراجع ولائه لزعيم الكرملين.
تبقى الإشارة إلى أن أي سيناريو دراماتيكي في هذا المشهد لا يمثل أخباراً سارة لا لروسيا ولا أوكرانيا وربما ليس للغرب أيضاً، لأنه يعني شكلاً من أشكال الهزيمة التي لا تقبل موسكو أن تحدث، بمعزل عن أي سيناريو.