وأنت تتجول في أزقة وحارات البلدة القديمة في نابلس الفلسطينية شمال الضفة الغربية، ستشعر وكأن روحك تحلّق عالياً، ترشف من عبق التاريخ والتراث الذي تعاقبت عليه قرون من الزمن، ففي البلدة القديمة بنابلس سحر خاص، وطابع معماري توارثته من حضارات قديمة، كالحضارة الرومانية، والعثمانية، والإسلامية. 
 
 
ومن أهم وأعرق معالم البلدة القديمة في نابلس قصورها القديمة، فهي الشاهد الحي على ما مرت به البلاد من حضارات، ويُخص بالذكر الحضارة العثمانية وما حملته من تنوع بالمسكن، فنجد البيت البسيط والقصور الشامخة، فالفترة العثمانية تعد من إحدى أطول المراحل التاريخية للمنطقة التي امتدت لحوالي أربعة قرون. 
 
 
وقد شكلت القصور والقلاع في وقتنا الحاضر علامة مميزة في تاريخ المجتمع الفلسطيني، فقديماً كانت تلعب دوراً مهماً على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فأثرت تأثيراً حاسماً على مجرى حياة العديد من العائلات الفلسطينية، خصوصاً عائلات «عبد الهادي وطوقان والنمر» العائلات التي كانت تحكم نابلس آنذاك، وبصفتهم حكموا هذه المدينة.
 
فكان لا بد لهم من تشييد القصور لتكون مقراً لإدارة شؤونهم، فتميزت نابلس القديمة بوجود أكبر وأقدم القصور التي لاتزال بعض غرفها مأهولة بالسكان حتى اليوم، فقصور العائلات الثلاث، تعتبر عنواناً حضارياً مهماً لتراث وأصالة وعراقة نابلس. 
 
رائحة معطرة
 
 لا تزالُ جدرانُ قصر عبد الهادي في البلدة القديمة بنابلس تنبض بالتاريخ العريق والعمارة الفنية المميزة، ولا تزال ملامح جدرانه شاهدة على أحداث العصور المختلفة. تتوسط باحته الواسعة نخلة تجاوز عمرها الـ 300 عام، وشجرة خشخاش تمتاز برائحة أوراقها المعطرة ومذاق عصيرها الذي لا يقاوم، اختلطت جذورها بجذور شجرة توت عملاقة تستهوي الزائرين لالتقاط الصور بظلها.
 
 
ويقول الباحث والمؤرخ النابلسي الدكتور عبدالله كلبونة لـ«البيان» إن أصول القصر تعود إلى الإقطاعي محمود عبد الهادي الذي بناه في حارة القريون إحدى حارات البلدة القديمة عام 1865 ميلادي إبان الحكم العثماني، وقد شيّد على أرضٍ مساحتها هكتارين، (والهكتار وحدة مساحية تعادل 10 آلاف متر مربع)، وورث القصر لاحقاً ابنه عبد الرحيم عبد الهادي. 
 
عائدة عبد الهادي زوجة أحد مالكي وساكني القصر، كانت في الجولة بين أرجائه، وبين غرفه التي يزيد عددها على 144، موضحة أن الطابق الأرضي كان إسطبلاً للخيول، والطابق الأول ديواناً لاستقبال الضيوف، وفي عام 1948 تم تحويله إلى روضة أطفال بأسعار رمزية. 
 
 
 
ومن عجائب الطابق الثاني أنه يشبه «الحدائق المعلّقة» في مصر لوجود أشجار النخيل والتوت والخشخاش والحمضيات والرمان والاسكدنيا، حيث قسم الرجال، كان يعرف قديماً بـ«السرملك» وهو مصطلح تركي، والطابق الثالث كان يعرف بـ «الحرملك» ويعني قسم النساء، الجناح الأضخم بالقصر، ويضم والدة السلطان وزوجاته وجواريه، تقول عائدة عبد الهادي. 
 
ويصف كلبونة القصر بأنه: «ليس كغيره من المباني، بل يرمز إلى العمارة العثمانية الإسلامية، وهو الأضخم على الإطلاق مقارنة بالقصور الأخرى في فلسطين التي بنيت في تلك الفترة».
 
 
وشبه القصر بالقلعة السكنية، بسبب نظام الحماية الذي بني عليها القصر حيث الأسوار العالية، إضافة لعدم وجود أية فتحات خارجية أو نوافذ في الطوابق السفلية، وتحيط به ساحة مفتوحة من الجوانب الأربعة وبهذا التشكيل يعتبر الأكبر مساحة. 
 
ولفت كلبونة إلى أن بوابة الإسطبل التي يقدّر ارتفاعها بثلاثة أمتار لا تزال على حالها، وصممت من خشب السنديان المنقوع بزيت الزيتون المقاوم للاشتعال، ويحيطها من الخارج صاج سميك، وتتوسط البوابة فتحة صغيرة تسمى «الخوخة»، لتسهيل عملية دخول الأشخاص وخروجهم بدلاً من البوابة الكبيرة، فيما مفتاحها الكبير ما زال بحوزة العائلة حتى اليوم. 
 
بيت الشعراء
 
 
من زقاق إلى زقاق يسير المؤرخ الستيني كلبونة، حيث الشمس تتوسط سماء نابلس وحبيبات العرق تنسدل من على جبينه، حتى الوصول إلى طلعة جامع البيك بين حارتي الياسمين والقريون.
 
وتم الوقوف على أقدم معلم تراثي نابلسي تجاوز عمره الـ 300 عام، إنه قصر طوقان من أهم المباني التاريخية في مدينة نابلس ويزيد عدد غرفه على 100 غرفة، يقع إلى الجانب الغربي من جامع البيك، ويفيد كلبونة أن رئيس رابطة علماء نابلس إبراهيم بك بن صالح باشا طوقان قام ببناء القصر، بتمويل من والده.
 
وكان ذلك في القرن الـ18 الميلادي، ارتبط بشخصيات تاريخية وأدبية فلسطينية أعطته شهرة كبيرة، وعلى وجه الخصوص ارتباطه بالشاعر والأديب إبراهيم طوقان، وأخته الشاعرة فدوى طوقان، والشخصية النابلسية الاعتبارية قدري طوقان. 
 
 
وعن الطراز المعماري يتحدث: «معمارياً يتكون القصر من مساحة ضخمة تقسمه إلى قسمين شمالي وجنوبي على طابقين من البناء، فيه قسم خاص للنساء ويسمى الحرملك وقسم خاص للرجال ويسمى السرملك، ويمتاز القصر بفخامته وتعداد غرفه وسعتها ومداخله المتعددة، مع نظام مائي متطور.
 
حيث تتوسط ساحاته البرك المائية، كما ويمتاز بالبستان المحيط فيه ومساحته 3 دونمات، مزروع بجميع الأشجار المثمرة وخصوصاً الحمضيات إضافة إلى أشجار نادرة الوجود في فلسطين والعالم». 
 
قصر النمر 
 
 
صدح أذان العصر عبر مآذن نابلس القديمة، وانتهت الجولة في أرجاء قصر طوقان، توجه كلبونة لأداء صلاة العصر في مسجد الساطون أقدم مساجد المدينة، ثم تم التوجه إلى حارة الحبلة التي تشبه بطرازها المعماري الحارات الدمشقية القديمة، وصولاً إلى البوابة الرئيسة لقصر النمر، وهناك كان في الانتظار السبعيني رشدي النمر، أحد ساكني القصر، بعد الترحيب، أشار بيده إلى البوابة قائلاً:
 
«يصل ارتفاعها حوالي أربعة أمتار، بحيث كانت تسمح للخيالة للدخول بخيلهم إلى ساحة القصر، حيث إسطبل الخيول، وللمشاة والراجلين بوابة صغيرة ضمن البوابة الكبيرة وتسمى خوخة.
 
فالبوابة الصغيرة مرتفعة عن الأرض وصغيرة نسبياً مما يجعل الداخل منها يحني هامته أثناء الدخول، وهذا النمط من البناء في البوابات الكبيرة التي تحوي الخوخة منتشر في الأبنية كبيرة الحجم كالقلاع والقصور والبيوت التي سكنها وبناها أشخاص لهم مكانة اجتماعية أو وظيفية في مناطقهم». 
 
 
بعد بوابة القصر باحة واسعة مبلطة بالحجر الصواني الذي اشتهرت به نابلس، وفي آخرها الإيوان الشمالي - كلمة أعجمية الأصل وعربت - وعلى جوانبه مقاعد حجرية وفي وسطه نافورة ماء، مفتوح بالكامل في مواجهة الباحة، كما هو نظام الإيوان في البناء .
 
حيث يتكون من قاعة مسقوفة وواجهتها مفتوحة بالكامل على الباحة أو الصحن الداخلي، ولكنه يرتفع عن الباحة بمقدار درجة حجرية، وهو يقع مباشرة في مواجهة بوابة القصر، وعلى يمين الداخل للباحة الواسعة كانت تقع إسطبلات الخيل. 
 
يسترسل النمر بحديثه لـ«البيان»: «بُني قصر النّمر في القرن 17 للميلاد، على الأمير يوسف عبدالله الجوربجي النمر، وكان أمير عسكر الشام في العام 1687، ووالده عبدالله باشا النمر من قاد الحملات العسكرية التي أرسلتها الدولة العثمانية عام 1657م؛ لبسط الأمن في المنطقة، والذي أصبح الحاكم الفعليَّ في مدينة نابلس، وبإقامته في نابلس كانت بداية تأسيس أسرة النمر والتي حكمت نابلس لأجيال عدة. 
 
 
وبيّن النمر أن القصر مقسوم إلى قسمين، القِسم الشمالي والذي يعد القصر الصيفي، القسم الثاني وهو القسم الجنوبي ويعد الأكبر، وفيه مدخل ذو حجم كبير، ويعد القصر الشتوي. 
 
ساحة مكشوفة 
 
ويتألّف كلا القصرين من طابقين، حيث يكون الطابق الأول على شكل ساحة مَكشوفة، وفيها بركة ماء، إضافة إلى إسطبل للخيل، أما الطابق الثّاني ففيه غرف عدة، ومقسمة جميعها إلى جناحين؛ حيث يعرف أحدها بالحرملك، وهو المخصص لـ«الحريم»، والآخر يُعرف بالسرملك، وهو المُخصّص للرجال، كما هو الحال في كل القصور، وكان يحتوي القصر عيناً للماء تسمى عين الأغا. 
 
 
 ومن فوق سطح القصر، بدت نابلس كما وصفها شيخ الربوة الدمشقي كأنها «قصر في بستان»، ولمنظر غروب الشمس، وهي تغيب عن سماء المدينة بخجل حكاية أخرى من حكايات الجمال والروعة، وستظل نابلس أم البدايات ومنشأ الحضارات، وعلى أرضها ما يستحق الحياة.