في أكتوبر من كل عام، يجدّد الفلسطينيون عهدهم وولاءهم للشجرة المباركة، ويبدؤون الاستعداد لموسم يعدّ من أقدس ما تبقى من التراث الفلسطيني.. موسم قطف الزيتون حلّ هذه الأيام في فلسطين، حيث بدأ الفلسطينيون قطف ثمارهم بروح مفعمة بالبهجة والسرور، كيف لا وهم يقطفون اليوم ثمار ما زرعته أيدي الآباء والأجداد قبل سنوات وسنوات.
مع إشراقة الشمس، تجتمع العائلة الفلسطينية على مائدة الطعام، أو ما تُعرف عند الفلاحين بـ«كسر السُفرة» لينطلقوا بعد ذلك إلى الأرض الحانية الطيبة، لقضاء يوم جميل وممتع بين أشجار الزيتون، يتفيّؤون ظلالها، وينهلون من خيراتها.. إنها «شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء».
في موسم الزيتون، تقرأ الفرح بأجمل معانيه في عيون الجميع، الكل يسهم في هذه المناسبة الجميلة، التي يحرص الكبار تحديداً على إعطائها شكلاً خاصاً يذكّرهم بسنين خلت، أو لربما يعيدهم إلى طفولتهم مجدداً.
وربما في هذا العام، لم يتميز موسم الزيتون ببهجته الاحتفالية المعتادة، حيث شحّت الأمطار، فكان الموسم متواضعاً جداً، وجاءت الطقوس مبتورة، لكن في فلسطين لا تعتبر شجرة الزيتون مجرد مصدر اقتصادي مهم لشريحة سكانية واسعة، بل تتعدى ذلك لتشكّل مكوناً من مكونات الهوية الوطنية، ورمزاً للتجذر والإصرار على البقاء.
ويشكل موسم الزيتون في فلسطين عرساً ريفياً كبيراً، يجتمع فيه الأهل، كبيرهم وصغيرهم، يجمعون الحب، وللطعام في الخلاء بعد يوم عمل شاق، نكهة مختلفة.
القطاف في البيارات، وزيتون أخضر للكبيس، والأسر تتشاطر البهجة برؤية حصاد تعبها في المعصرة، ووضع الحب في حاويته الخاصة أول الخطوات قبل تدفق «البترول الأخضر».. الزيت في البراميل، وإلى المنزل.
وهناك في موسم قطاف الزيتون ما يبرر القول: «لو يعرف الزيتون غارسه.. لصار الزيت دماً»، ففي هذا الموسم أكثر من غيره ما يُثبت إصرار الفلسطيني على تمتين العلاقة بين إنسان هذه الأرض، ورمز تاريخه وديمومته عليها.
ولموسم الزيتون في فلسطين قصص ومآثر، فهو يرمز للخصب والعطاء والبركة، فهنا لمّة عائلية حول الشجرة المباركة، وهناك فرحة صادقة تعلو وجوه المزارعين، والأطفال يشاركون على طريقتهم، فيما الكبار يرصدون «خير السنة» في المعاصر.
وللزيتون أوصاف جميلة في الأغنيات الشعبية، ومن أشجاره يستخرج الفلسطينيون الحطب للدفء في الشتاء.. طقوس وعادات وتقاليد، وأجواء حميمية لا تتوفر في غير هذا الموسم، متعة بين أحضان الطبيعة الخلابة، الطهي على الحطب.. و«الشاي على النار».. وتناول طعام الإفطار تحت جذع زيتونة.. المعونة بين الأقارب والجيران أجمل العادات، وقصائد يتردد صداها في الفضاء الرحب، أصوات تتعالى هنا وهناك، والكل منهمك في جمع حبات الخير، وفقاً للقول المأثور «غرسوا فأكلنا، ونغرس ليأكلوا».