لا أحد يعرف تاريخ نشأة سوق الذهب الشهير بمدينة غزة، ولكن الجميع يجزم بعراقته، ويفسر المواطنون والتجار على حد سواء ذلك، متندرين بارتباطه بعراقة حب النساء للتزين والتحلي بشتى أنواع الزينة، وخصوصاً المصوغات والمشغولات الذهبية.

وعلى كثرة محلات الذهب والصياغة في غزة، يظل السوق الذي يقبع خلف المسجد العمري الكبير في المدينة منذ سنوات طويلة، العنوان الأبرز الذي يتبادر إلى أذهان الراغبين في شراء الذهب أو بيعه أو استبداله.

ومع قدوم فصل الصيف، وارتفاع معدل الأعراس، وعودة الحياة إلى غزة، يشتد السوق ازدحاماً فوق ازدحام، خصوصاً وأن شارعه ومدخله غاية في الضيق، فلا تكاد تجد موطئ قدم فيه، خصوصاً في ساعات الصباح، حيث الموعد المفضل للعروسين، لشراء احتياجاتهما من المصوغات الذهبية مع الأهل.

رغم ذلك، تكاد لا تمر لحظة من لحظات مرورك في السوق، دون أن تلاحقك دعوات التجار فيه من قبيل: «تفضّل.. أهلاً وسهلاً.. طلبك عنا».. إلى حد يصل بك إلى النفور أحياناً، أمام كل هذا الإلحاح، خاصة إذا لم تكن تنوي الشراء بالفعل، وفقط ترغب بالاستطلاع، وإمتاع ناظريك بما تزدحم به «فاترينات» السوق، وهي الملاحظة التي ينقلها أحد أصحاب المحال في سوق الذهب، موضحاً أنه هو الآخر يمارس الإلحاح ذاته، على كل قادم إلى السوق، ويستشعر من هيأته ونظراته من لديه رغبة في الشراء، أو أية معاملة أخرى.

يقول نائل السعدي، الذي يعمل في المهنة التي ورثها عن والده وأجداده، منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً: «إن تاجر الذهب لم يكن ليفعل هذا قبل سنوات، غير أن سوء الوضع الاقتصادي ألقى بظلاله على الجميع، ونال من تجار الذهب، فأصبحوا لا يهنأون بالجلوس على مقاعدهم في المحلات، بل يرابطون هم أو أولادهم على أبوابها، استجداءً لزبون طيّار!».

وأضاف مبدياً أسفه: «في السابق كنا نفتح محلاتنا مع ساعات الصباح الباكر، ولا نغلقها إلا مع حلول الليل، ولا نكف عن عقد المعاملات والصفقات، وتحقيق المكاسب طوال الوقت، وكنا لا نبذل أي مجهود في استقطاب الزبائن، فالعرض موجود والطلب متوفر، أما اليوم، فمع قاموس الترحيب وكلمات الجذب والاستقطاب، لا يكاد التاجر يحقق ما يصبو إليه من الكسب، المسقوف باعتبارات وظروف عديدة».

وذهب التاجر مايك عيّاد إلى ما ذهب إليه السعدي، موضحاً أن الوضع الاقتصادي المتأزم، لا يزيد عن كونه أحد الأسباب، فإلى جانبه هناك الحصار وعدم التواصل الجغرافي، ما يحول دون قدوم الزبائن إلى غزة، وتزوّدهم بالذهب من سوقها، كما كان في السابق، خصوصاً أهالي مدن الداخل الفلسطيني، والذين اعتمد عليهم جزء غير يسير من تجار الذهب سابقاً في قطاع غزة.

ويروي عيّاد أن موسم الزواج في فصل الصيف لم يعد خيره كالسابق، كما يُخيّل للبعض، فمن جهة هناك شيء من العزوف عن الزواج عند الشباب بسبب الضائقة الاقتصادية، وتفشي البطالة وارتفاع معدلات الفقر، ومن جهة أخرى قبل سنوات كان متوسط المهور في غزة يتيح للعروس أن تتزين بنصف كيلو غرام من الذهب، أما اليوم فمتوسط ما تستطيعه لا يتجاوز الـ130 غراماً!

أسعار تحت المساومة

وقطع على عيّاد حبل حديثه، دخول سيدة ستينية إلى محله، بصحبة ابنتها الشابة، التي كانت تحمل طفلة ذات شهور ستة، حيث طلبت «إسوارة» وجلست على أقرب كرسي صادفها، بعد أن أرسل عيّاد في طلب الإسوارة، غير أنها سرعان ما أبدت تأففاً على كل ما حولها، غلاء الأسعار والضائقة الاقتصادية وقلة ذات اليد، وقبل أن يبادرها عيّاد بالسؤال عن الإسوارة، سارعت قائلة: «لولا أن الطفلة جاءتنا على شوق، لما جازفنا بشراء إسوارة لها».. قبل أن تشهق مأخوذة من سعرها الذي أطلقه عيّاد، بعد أن وزنها، وأنهى حسابها بدقات سريعة على الآلة الحاسبة أمامه، واستغرق الأمر دقائق من المساومة، قبل أن يستقر على السعر النهائي، الذي قبل به على مضض، مؤكداً أن الثمن بالكاد أوفى كلفتها.

وأضاف متسائلاً: «هل هناك كساد أكثر من هذا؟.. محل يحوي رأس مال بأكثر من مئة ألف دينار أردني، ولا يجني من ورائه أكثر من عشرين ديناراً يومياً»؟!.