استدعت لجنة القوات المسلحة في الكونغرس، في سبتمبر 2015 قائد القوات المركزية الأمريكية، وزير الدفاع الحالي، الجنرال لويد أوستن، للاطلاع على إحاطته بخصوص عملية «العزم الصلب» ضد تنظيم داعش الإرهابي، حيث كان قد مر عام على إطلاقها وتشكيل التحالف الدولي بمشاركة 83 دولة.

عرض الجنرال خطة عمله المكونة من خمس مراحل، تبدأ بوقف تقدم «داعش» وتنتهي بسحقه. تم تنفيذ هذه الخطة بدقة، وحدث على أرض الواقع ما رسمه أوستن على الورق.

لكن في العام 2013، حين تم ترشيحه لمنصب القيادة المركزية، كانت الأولوية في استراتيجية القيادة المركزية هي أفغانستان، ولم تكن حينها الصين تشكل تحدياً ولم يتحدث عنها أوستن في جلسة التثبيت سوى أنها دولة تريد الوصول لمصادر الطاقة وتحاول بيع أسلحة أرخص من الأسلحة الأمريكية. من أفغانستان إلى الإرهاب ثم الصين.. مسيرة أوستن تجسد خلاصة أن لا استراتيجية ثابتة في الفوضى.

في جلسة تعيينه بمنصب قائد القيادة المركزية، عام 2013، تحدث الجنرال لويد أوستن من موقع الجنرال الخبير في الحرب في أفغانستان والعراق، حيث خدم في قيادة القوات الأمريكية في كلال البلدين. كانت حزمة الأسئلة الأولى الموجهة لأوستن من أعضاء مجلس الشيوخ تتعلق بأفغانستان، واستراتيجية قوات حلف شمال الأطلسي هناك لإلحاق هزيمة دائمة بحركة طالبان ومنع أفغانستان من التحول إلى ملاذ للإرهاب.

الجلسة عقدت في مارس 2013، حينها كانت التنظيمات الإرهابية في دول الربيع العربي لا تزال متوارية خلف أسماء جديدة أو ضمن حركات معتدلة في الظاهر، ولم يكن تنظيم داعش الإرهابي أعلن عن نفسه بعد.

وبينما أقر أوستن أن تنظيم القاعدة تحت ضغط هائل في باكستان وأفغانستان والعراق وشبه الجزيرة العربية، فإنه بدا قلقاً من أن يمنح «الربيع العربي» حياة جديدة للتنظيمات الإرهابية المقلقة للولايات المتحدة، وأشار صراحة إلى هذه المخاوف بقوله إن «عدم الاستقرار الإقليمي في منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية والظروف الأمنية المتغيرة الناتجة عن الربيع العربي يؤدي إلى خلق فرص وملاذات آمنة محتملة لحركة القاعدة».

ما حدث بعدها كان أسوأ مما تخيله أوستن أو حذر منه، فقد بات تنظيم «القاعدة» في المرتبة الثانية في استراتيجية مكافحة الإرهاب مع صعود تنظيم داعش منذ مطلع العام 2014 وشنه حرباً شاملة أسفرت عن تهشيم سوريا والعراق وإنهاك المجتمعات المحلية وتهجيرها، فضلاً عن إجهازها على كل ما يمت للدولة المركزية بصلة في سوريا والعراق.

بناءً على هذه المخاوف، كان للجنرال أوستن دور في رفض مقترح تسليح المعارضة السورية إلا عبر برنامج دقيق وانتقائي، لأنه وفق قوله «سيكون هناك خطر كبير في تزويدها بالمساعدات المميتة بسبب الدور المؤثر للمتطرفين مثل جبهة النصرة داخل المعارضة، وأيضاً بسبب القرب الوثيق للوكلاء الإيرانيين وميليشيات حزب الله من الصراع، مما يزيد من فرصة وصول المساعدات الفتاكة إلى أيدي الجهات المعارضة للمصالح الأمريكية».

مقاربة أوستن رسمت في النهاية المسار الأمريكي المستمر حالياً في تطوير قدرة شركاء محليين معتدلين في الدول المضطربة، ومن نتائج ذلك صعود قوات سوريا الديمقراطية كشريك لقوات التحالف الدولي في محاربة داعش في سوريا.

مرحلة انتقالية

في العام 2015، شارك أوستن الذي كان حينها قائد القيادة المركزية في الجيش الأمريكي، في منتدى نظمه قسم الشرق الأوسط في معهد بروكنغز بعنوان «الشرق الأوسط في مرحلة التحول» وألقى كلمة افتتاحية حين كان صعود تنظيم داعش الإرهابي هو الشغل الشاغل للعالم أجمع. اعتبر الجنرال الأمريكي أن منطقة الشرق الأوسط تمر بمرحلة انتقالية. وأكد أنه من الصعب أن نتخيل وقتاً كانت فيه هذه المنطقة في حالة تغير مستمر، وأكثر فوضوية وتقلباً واضطراباً مما هي عليه.

في أجواء 2015، كان أوستن واحداً ممن وجهت إليهم أصابع سوء التقدير حين أشرف على سحب القوات الأمريكية من العراق، بقرار من الرئيس الأسبق باراك أوباما. لم تملأ الدولة العراقية فراغ الانسحاب بسبب سوء إدارة رئيس الوزراء في ذلك الحين، نوري المالكي، فكان الإرهاب بأكثر أشكاله وحشية أمام جائزة كبرى: أراضٍ ومدن كبيرة ولا دولة ولا أمن ولا احتلال.

كيف يتذكر أوستن الشرق الأوسط؟

اجتاح الإرهاب سوريا والعراق، وحطم مدناً وشرد الملايين ودمر التركيبة الاجتماعية الراسخة في المنطقة. على الأرجح كل ذلك لا يترك مجالاً لأوستن الحديث عن إنجازات شارك فيها، لذلك قال في تلك الجلسة في عام 2015: «غالباً ما أخبر الناس أنه عندما تكون مسؤولاً عن جزء من العالم يتكون من أماكن مثل العراق وسوريا وإيران واليمن ولبنان وأفغانستان، عندما تكون مسؤولاً عن هذا الجزء من العالم، فلن تعرف أنواع التحديات أو الأزمات التي ستستيقظ وتجدها أمامك في أي يوم».

بالنسبة لأوستن، قرار الانسحاب من العراق كان صحيحاً من الناحية الاستراتيجية، ليس لأن القرار اتخذ أساساً لاعتبارات انتخابية، ولا بسبب شروط المالكي حينها بخصوص عدم منح الحصانة القانونية للقوات الأمريكية، بل لأنه، وفق إفادته أعلاه، لا يمكن التنبؤ بـ«اليوم التالي» في منطقة الشرق الأوسط.

خلال فترة الاضطراب التي تفاقمت منذ 2013، تحرك أوستن باتجاه عواصم عديدة في المنطقة، وخلص إلى تحديد التيارات الأساسية التي تلعب دوراً في الجزء هذا الجزء المضطرب من العالم. وتحدث عن انفجار المشكلتين العرقية والطائفية معاً، والعراق مثال على ذلك. وبتعبيره: «أنْ تكون شيعياً أو سنياً أو كردياً أهم من أن تكون عراقياً. وحتى يتغير هذا، سيكون من الصعب بشكل متزايد توحيد البلاد». بالنسبة له، كان في المقلب الآخر مشكلة بنيوية تفتح الباب أمام انتعاش الإرهاب في المنطقة انطلاقاً من العراق، فـ«حكومة العراق الوليدة (عام 2013) تتأرجح بين الديمقراطية والأوليغارشية».

أمضى أوستن 28 شهراً بين عامي 2013 - 2015 في «فهم الأسباب الجذرية للمشكلات في المنطقة. ما هو نشأة العنف؟ وما الذي يربط الأحداث والسلوكيات المختلفة معاً؟».

المقاربة التي قدمها الجنرال أوستن، كانت تصب في النهاية كلياً إلى إثبات صحة قرار الانسحاب الأمريكي نهاية عام 2011، وأن حل معضلة انهيار الدول تحت وطأة حزمة معقدة من الأسباب منها سوء الإدارة ونقص الديمقراطية وتفشي الإرهاب المدمر، هي مسؤولية أبناء هذه المنطقة. واستخدم عبارة أخرى أكثر عمقاً في أن ما يجري لا يمكن لتدخل خارجي إيقافه لأن - والقول لأوستن - «على المستوى الكلي، المنطقة في خضم فترة انتقالية كبيرة».

خلال أربعة عقود من عمله في الميدان العسكري، خلص أوستن إلى قناعتين بخصوص الصراع في الشرق الأوسط حتى عام 2015: «داعش هو أخطر عدو رأيته في حياتي. وبالمثل، فإن الصراع الذي لا يزال يعصف بسوريا هو التحدي الأكثر تعقيداً الذي رأيته في حياتي».

حقبة الصين

لكن هل منطقة الشرق الأوسط ما زالت في القائمة القصيرة للأولويات على أجندة البنتاغون؟

لم يفتتح أوستن عهده كوزير للدفاع بملفات الشرق الأوسط. فالتحول الذي أرساه أوباما، وحاول ترامب تقليده لكن بكثير من عدم الانتظام، في إنقاذ أمريكا من الاستنزاف اللانهائي في هذه المنطقة، ما زال يوجه السياسات الأمريكية من حيث المبدأ، لذلك فإن أول خطوة بارزة قام بها أوستن في مكتبه الجديد هو تشكيل فريق عمل مختص برسم إطار تفصيلي ويومي للمنافسة مع الصين.

إن وجود الصين على رأس أولويات الولايات المتحدة يعكس حجم التحول الكبير في العالم خلال العقد الماضي. فحتى في جلسة تثبيت أوستن، عام 2013، أمام مجلس الشيوخ، كان من بين عشرات الأسئلة الموجهة له سؤالان فقط عن الصين. كانت بكين حينها لا تزال تعتبر قوة إقليمية، ولم يكن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، قد أطلق بعد مشروع القرن (الحزام والطريق)، ولم تكن بكين قد شرعت في ملء الفراغات الاستراتيجية في العالم، وصولاً إلى إزاحة نفوذ أمريكا وحلفائها في مناطق عديدة.

كان السؤال الموجه لأوستن: في رأيك، ما هو تأثير النمو الاقتصادي والعسكري للصين على منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية؟

أجاب أوستن: «تعتمد الصين بشكل كبير على موارد الطاقة الموجودة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى (أي منطقة عمليات القيادة المركزية الأمريكية) لتلبية الطلب المحلي المتزايد على الطاقة وتحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في النمو الاقتصادي المستدام.

تسعى الصين إلى بناء علاقات سياسية واقتصادية مع الدول في منطقة العمليات لضمان احتفاظ بكين بإمكانية الوصول إلى موارد الطاقة في المنطقة، لكن الصين تلعب دوراً ضئيلاً في ضمان الأمن والاستقرار في جميع أنحاء المنطقة.

كانت الصين تاريخياً مصدر مبيعات الأسلحة للدول التي تسعى إلى تحديث ترساناتها أو شراء بدائل أرخص للأسلحة الأمريكية».

في 2021، ما هو موقع الصين في الاستراتيجية الأمريكية؟ بحسب أوستن احتواء الصين أولوية قصوى.