انقضى أكثر من عام ونصف على انتشار جائحة الفيروس التاجي المستجد، لتبدأ الدول بانتهاج استراتيجيات القبول والتعايش مع كوفيد-19 لتتفق على أن الفيروس موجود ليبقى، بشكل ما، في المستقبل المنظور، ومن بين المناهج الجذرية تتبدى سنغافورة، الدولة الجزرية التي يبلغ عدد سكانها 5.69 مليون نسمة، وقد حصدت منذ بدء الجائحة وفاة 36 شخص فقط، وفقاً لبيانات جامعة جونز هوبكنز.
وبما أن استراتيجية سنغافورة الجديدة تتمحور حول التوقف عن احتساب حالات كوفيد-19 اليومية داخل البلاد، فإن الخطوة تمهد لأن تضع خارطة طريق ونموذج للدول الأخرى ضمن تدابير الوباء، بحسب تقرير لشبكة "سي إن إن".
ومنذ بداية الجائحة، سارعت سنغافورة لإغلاق حدودها وتنفيذ برنامج شامل لتتبع الأفراد المخالطين لمصابين وإخضاعهم للاختبار، كما وفرضت الحجر الصحي في وقت مبكر. والآن يرسم البلد مساراً مختلفاَ للخروج من الوباء، ومن المحتمل أن يُنظر إلى تلك الخطط كحالات اختبار لدول أخرى خلال فترة تكثيف برامج التطعيم الخاصة بها.
خرائط طريق
في يونيو، كشف المشرعون السنغافوريون عن خارطة طريق البلاد نحو "الوضع الطبيعي الجديد" في خطاب نُشر في صحيفة "ستريتس تايمز"، يأتي كخروج جذري عن نموذج "الانتقال الصفري" السابق في سنغافورة، حيث تبنت العديد من الدول والأقاليم في جميع أنحاء منطقة آسيا والمحيط الهادئ ما يسمى بمقاربات "صفر-كوفيد"، بيد أن تلك الخطوة المستحدثة من حكومة البلاد كشفت تطلع السلطات السنغافورية لتغيير المسار والابتعاد عن الاحتساب اليومي لعدد الحالات، والتركيز على النتائج الطبية مثل "عدد الأشخاص الذين يعانون من الإعياء والمرض الشديد، تعداد الأشخاص في وحدة العناية المركزة، ومن هم بحاجة إلى استخدام تقنيات طبية داعمة للمريض للحصول على الأكسجين وما إلى ذلك، وفقاً للصحيفة السنغافورية. وكمحصلة نهائية، يأمل المشرعون بتعامل مع Covid-19 كمرض أقل خطورة، مثل الأنفلونزا أو الجدري.
من جهته،في 9 يوليو صرح وزير الصحة السنغافوري أونج يي كونغ لوكالة "بلومبيرغ" أن خارطة طريق سنغافورة تأتي كما يعتقد " لاتخاذ مسار وسطي أكثر"، موضحاً أنه من الضروري تحقيق معدلات تطعيم عالية و"الحفاظ على إجراءات الاحتواء والتخفيف".
تلقى حوالي 40٪ من سكان سنغافورة جرعتهم الثانية من اللقاح، وتقول الحكومة إن الدولة في طريقها لتطعيم ثلاثة أرباع سكانها بالكامل بحلول 9 أغسطس.
وأضاف أنج لبلومبيرغ إن: "الميزان سيتغير" لكن لن يتم التخلي عن تدابير التخفيف والاحتواء. وبدلاً من ذلك، قال إن إعادة فتح سنغافورة ستكون تدريجية، " مع الحرص على ضمان سلامة السكان في كل خطوة على الطريق نحو الانفتاح الأكبر.
مغامرة بريطانية
بالعودة إلى إنجلترا، يراقب الكثيرون بقلق إعادة افتتاح البلاد والتي وصفها البعض بـ "مقامرة بوريس جونسون" رئيس الوزراء البريطاني، بحسب "سي إن إن". فقد حذر أكثر من 100 طبيب وعالم الأسبوع الماضي من أن تلك الخطوة لم تكن سابقة لأوانها فحسب، بل وأن "الانتقال سيؤثر بشكل غير متناسب على الأطفال غير المحصنين والشباب الذين عانوا بالفعل بشكل كبير". وأضافوا أن الاستراتيجية ستخلق "أرضية خصبة لظهور متغيرات مقاومة للقاحات"، مما يعرض المملكة المتحدة والعالم الأوسع للخطر. وكتبوا "نعتقد أن الحكومة تشرع في تجربة خطيرة وغير أخلاقية، وندعوها لوقف خطط التخلي عن التخفيف في 19 يوليو.
خلال حديثه في مؤتمر صحفي يوم الاثنين، دافع جونسون عن خطط إعادة الافتتاح، قائلاً إن العطلات المدرسية القادمة ستساعد في الحد من انتشار الفيروس بين الأطفال. كما دعا جونسون الناس لتحمل المسؤولية الشخصية، وأوصى بارتداء أغطية الوجه في الأماكن المزدحمة أو المغلقة، على الرغم من قراره برفع تفويض الكمامة.
ويقول معارضون للقرار، إنه من من السهل جدًا (تحويل) هذا العبء على المسؤولية الشخصية وإلقاء اللوم على السكان" إذا ارتفعت الوفيات. فضلاً عن مخاوف تسبب القرار بارتفاع عدد الحالات ووفاة بعض الأفراد الذين تم تطعيمهم جزئيا أو كليا،
ثقة في الحكومة السنغافورية
على عكس المملكة المتحدة، واجهت خارطة طريق سنغافورة للخروج من أزمة Covid-19 معارضة عامة قليلة، ويرجع الفضل في ذلك جزئيا للمستويات العالية من الثقة في الحكومة التي يُنسب إليها الفضل في المساعدة بالسيطرة على الفيروس خلال الأشهر الـ 18 الماضية.
مزايا سنغافورية
في معركتها ضد فيروس كورونا، تتمتع الدولة الجزرية بمزايا لا تمتلكها العديد من الدول الكبرى: فهي تضم عدداً قليلاً من السكان الذين اعتادوا إلى حد ما على وضع القواعد الصارمة. بالإضافة إلى ذلك، أعطتها تجربتها في تفشي مرض السارس عام 2003 بداية مبكرة لمدة 17 عاما لإنشاء مرافق الحجر الصحي، وبناء المعامل والقوى العاملة استعداداً للمرض الفيروسي التالي.
قال ديل فيشر، أستاذ الأمراض المعدية في جامعة سنغافورة الوطنية لشبكة "سي إن إن": "إن هذا يعني أنه في الأشهر التي تلت أول حالة تم الإبلاغ عنها في الصين، كنا على رأس الأمر".
يكمن جزء كبير من نجاح سنغافورة في احتواء الفيروس التاجي في نظام تتبع الاتصال المكثف والقوي. باستخدام تقنية Bluetooth اللاسلكية، يتتبع تطبيق خاص اللقاءات القريبة بين الأشخاص، مما يسمح لجهات الاتصال الوثيقة للحالات المؤكدة بالعزل السريع. كما أن استخدام التطبيق إلزامي لدخول المحلات التجارية والأماكن.
بيد أن معظم المسائل لا تخلو من الخلافات، إذ اعترفت الحكومة هذا العام بإمكانية تسليم بيانات من التطبيق الخاص للشرطة لإجراء تحقيقات جنائية، الأمر الذي أثار انتقادات الجمهور.
تعد مسألة تحقيق مستويات عالية من التطعيم عاملاً أساسياً لخطة إعادة فتح الحكومة، لكن المشرعين غير متأكدين من وصولهم لنسبة 90% أو 95% اللازمة لتحقيق مناعة القطيع، حسبما قال وزير الصحة أونج، وقال "قد نحصل على 80% إذا كنا محظوظين".
بالتدريج
إعادة فتح سنغافورة ستكون تدريجية ولن يتم رفع القيود بين عشية وضحاها، كما أن قواعد التباعد الاجتماعي الحالية بسنغافورة تحد من الاختلاط الاجتماعي لخمسة أشخاص ويمكن أن يصل إلى 30 شخصا عند الالتقاء بشكل قانوني في مكان مغلق.
وعلى عكس المملكة المتحدة، يقتصر الدخول إلى سنغافورة إلى حد كبير على مواطني سنغافورة والمقيمين الدائمين- لكن يتعين عليهم الحجر الصحي لمدة 14 يوما في فندق أو في المنزل. في نهاية شهر يوليو، سيتم السماح للأشخاص الذين تم تطعيمهم بالكامل بالاجتماع في مجموعات من ثمانية أفراد. واعتباراً من هذا الأسبوع، سيُطلب من الموظفين في الأماكن "عالية الخطورة" - الصالات الرياضية والمطاعم وصالونات التجميل - إجراء اختبارات فحص كوفيد-19 كل أسبوعين، وفقا لموقع إلكتروني حكومي.
قال خبير الأمراض المعدية فيشر إنه مع تلقيح المزيد من الأشخاص في سنغافورة، فإن عدد الإصابات سيكون أقل إثارة للقلق. وأضاف أنه بدلاً من الإبلاغ عن الإصابات اليومية، يجب أن يكون التركيز على عدد الإصابات التي تترجم إلى دخول المستشفى والوفيات. وقال فيشر: "إنه تغيير في قواعد اللعبة بالفعل". موضحاً إن إعادة فتح سنغافورة "لن تكون على غرار المملكة المتحدة". لا تزال الوكالات الصحية ترسم التفاصيل الدقيقة لخريطة الطريق في سنغافورة لكن فيشر يعتقد أن إعادة الافتتاح قد تسمح للسنغافوريين بالسفر بحرية أكبر، وأن الحجر الصحي سيكون في المنزل إذا ما تم تطعيمهم، وليس في منشآت مخصصة، "لأنه مع التطعيم ستكون الأعراض خفيفة في الغالب. مع تطعيم الآخرين حول الشخص المصاب أيضاً، سيكون خطر انتقال العدوى منخفضا"، حسبما ذكرت "ستريتس تايمز".
لفت خبير الأمراض المعدية فيشر أن "النقطة المهمة هي أننا لا نريد أن نبقي الأمر ضيقاً للغاية، لكننا أيضًا لا نريد رصد 5 آلاف حالة بين عشية وضحاها"، مع التوجه نحو قيود أكثر تساهلاً.