تكتوي أوروبا بنيران الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الشديدة على الوضع الاقتصادي، وفي ظل توقف إمدادات الغاز الروسي، الأمر الذي دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى الهرولة نحو مصادر غاز بديلة، أهمها الولايات المتحدة الأمريكية، التي ارتفعت صادراتها من الغاز المسال إلى أوروبا حتى 45 % بين عامي 2021 و2022، لتصبح أكبر مورد للغاز المسال للاتحاد الأوروبي.
وجهت دول أوروبية، خلال الأيام الأخيرة، انتقادات لاذعة للموقف الأمريكي، والأسعار التي وصفتها بـ «الخيالية» في بيع الغاز للقارة العجوز، على رأسها فرنسا، عندما انتقد الرئيس إيمانويل ماكرون، أمام مؤتمر لعدد من رجال الأعمال في باريس بيع واشنطن للغاز بأربعة أضعاف السعر المحلي، موجهاً حديثه للولايات المتحدة والنرويج: «ليس هذا المعنى الدقيق للصداقة».
وفي السياق نفسه، وجه وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، انتقاداً لـ «دول صديقة» لبلاده على رأسها الولايات المتحدة، تطلب «أسعاراً خيالية» من أجل توريد الغاز بعد وقف الشحنات الروسية على أثر تبعات الحرب في أوكرانيا.
أكبر المستفيدين
يقول رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، الدكتور رشاد عبده، في تصريحات لـ«البيان» إن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر المستفيدين من الحرب الراهنة على المستوى الاقتصادي، ودفعت في إطار تخلي أوروبا عن الغاز الروسي، حتى قبل التدخل الروسي في أوكرانيا، مستشهداً بالعقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على الشركات التي تسهم في تمويل خط الغاز «نورد ستريم 2» الذي يضاعف كمية الغاز الروسي المنقول إلى أوروبا.
ويلفت إلى أن أوروبا لا تتوافر أمامها بدائل مناسبة يمكنها تغطية احتياجاتها من الغاز، وبالتالي فإنها مضطرة للحصول على الغاز الأمريكي - بأربعة أضعاف سعره - وسط مساعي للتوسع في البدائل، من الجزائر على سبيل المثال.
ويُبرز عبده الضغوطات الداخلية في الدول الأوروبية والتي تعبر عنها التظاهرات الشعبية المختلفة إزاء الوضع الراهن قبل دخول فصل الشتاء، والتي من شأنها التأثير على مواقف الدول الأوروبية التي تعاني أزمة حقيقية، وتعمل واشنطن على لي ذراعها واستغلال الأزمة بعقود واتفاقات طويلة الأجل تجعل أوروبا «تحت رحمة الولايات المتحدة لسنوات حتى حال انتهت الحرب».
تتوقع إدارة معلومات الطاقة بالولايات المتحدة، أن تصل متوسطات صادرات الغاز الطبيعي المسال بأمريكا إلى 11.2 مليار قدم مكعب في اليوم للعام 2022 (بارتفاع 14% عن العام 2021) و12.7 مليار قدم مكعبة في العام 2023.
أزمة الطاقة
«تلعب الولايات المتحدة على الوتر الحساس بالنسبة لأوروبا، وهو مسألة الطاقة»، على حد تعبير رئيس مركز العاصمة للدراسات والأبحاث الاقتصادية بالقاهرة، الدكتور خالد الشافعي.
والذي يقول في تصريحات لـ«البيان»، إن واشنطن، وهي المستفيدة من أزمة الطاقة الراهنة من خلال تصديرها الغاز لأوروبا بأسعار مرتفعة، تُدرك مدى احتياج دول الاتحاد الأوروبي للغاز الأمريكي بعد انقطاع إمدادات الغاز من روسيا التي كانت تسد نسبة تصل إلى 40% من احتياجات القارة العجوز.
ويتابع: «وعليه تبيع واشنطن الغاز لأوروبا بأسعار مبالغ فيها، لتحقق أقصى استفادة من المأزق الأوروبي الراهن، من دون مراعاة الأبعاد السياسية التي تربط الجانبين لجهة تحالفهما إزاء موضوع أوكرانيا، والتزام الجانب الأوروبي بالعقوبات المفروضة على موسكو بعد 24 فبراير الماضي».
وأمام تلك المفارقة «لم يعد أمام الجانب الأوروبي سوى إعادة صياغة رؤيته إزاء المشهد الراهن برمته، كي لا يتحمل أعباء تلك الأسعار المرتفعة»، طبقاً للشافعي، الذي يلفت إلى «التحديات الداخلية التي تواجهها الدول الأوروبية لجهة الاحتجاجات الشعبية على الوضع الراهن، والضغوطات المُمارسة على الحكومات.
والتي يتعين معها إعادة ترتيب الأجندة الأوروبية، وصياغة رؤية تحقق مصالح جميع الأطراف مع الولايات المتحدة، وكذلك العمل على مستوى آخر في تحقيق الاعتماد على بدائل أرخص»، موضحاً أن الأزمة الراهنة قد تشكل تأثيراً على ردود أفعال مرتبطة بالحرب في أوكرانيا وكذلك العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين.
وفي وقت تنتقد دول أوروبية «الأسعار الخيالية» للغاز الأمريكي الطبيعي المسال، فإن عدداً من الدول - لا سيما ألمانيا وهولندا والدنمارك - تعارض فكرة وضع سقف مُحدد لأسعار الغاز التي طُرحت على نطاق واسع في الفترة الأخيرة من قبل 15 دولة أوروبية من بينها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، خشية أن يؤثر ذلك القرار على احتياجاتها من الغاز.
وقد ارتفعت الواردات الأوروبية والبريطانية من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 63% في النصف الأول من 2022 (بمتوسط 14.8 مليار قدم باليوم). وخلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري، ارتفعت الصادرات الأمريكية من الغاز لأوروبا بنسبة 18%.
وخلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، فإن نسبة تصل إلى 71% من صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية تتجه إلى الاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
آليات السوق
من جانبه، يقول أستاذ الاقتصاد الدكتور علي الإدريسي، إن المصالح الاقتصادية ليست مرتبطة بشكل دائم بتوافق المواقف والعلاقات على صعيد العلاقات السياسية والموقف من ملفات إقليمية ودولية، وبالتالي فإن الموقف الأمريكي مبني على أساس المصلحة، وتحكمه آليات العرض والطلب بسوق الغاز.
ويشير إلى أنه في الأزمات المماثلة عادة ما تكون هناك أطراف مستفيدة وأخرى متضررة من ارتفاع الأسعار، وهذا أمر طبيعي، فكل طرف من الأطراف يبحث عن مصالحه، ومهما كان هناك اتفاق على مجموعة من المواقف السياسية على المستوى الدولي -كما هو الحال بالنسبة للأزمة في أوكرانيا- فإن السوق مرتبطة بمبدأي العرض والطلب، وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي في موقف لا يُحسد عليه.
ويتابع: «الاتحاد الأوروبي في أشد الاحتياج للغاز الروسي، بينما يفرض عقوبات على موسكو، ويصطدم في الوقت نفسه بارتفاع تكاليف الحصول على الغاز عبر البدائل المتوافرة بالنسبة له، بما في ذلك الغاز المسال من الولايات المتحدة، وبالتالي فإن أوروبا قد عاقبت نفسها قبل أن تُعاقب روسيا بالعقوبات المفروضة».
وأعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في وقت سابق هذا العام، عن اتفاقية لإمدادات أمريكية إضافية من الغاز حتى العام 2030.
وبخلاف الغاز الأمريكي، فإن البدائل الأخرى المتاحة لأوروبا مثل الحصول على الغاز من دول بمنطقة الشرق الأوسط لا يُمكنها أن تكفي احتياجات أوروبا من الغاز، لا سيما في ضوء عدم توافر البنية التحتية المناسبة، وارتفاع كلفة النقل وغيرها من اللوجيستيات ذات الصلة، طبقاً للإدريسي.
وأمام تلك المعضلة، ينتظر أوروبا شتاء قاسٍ، بينما لا تلوح في الأفق بوادر إيجابية لحل الأزمة في أوكرانيا وكل المؤشرات تقود لسيناريوهات صعبة، بما ينعكس على الوضع الاقتصادي العالمي، وقد خفض صندوق النقد توقعاته لنمو الاقتصادي العالمي خلال العام المقبل بمقدار 0.2 نقطة مئوية إلى 2.7% (مقارنة بتوقعات سابقة في يوليو الماضي بـ2.9%).
ويعتقد الإدريسي بأنه حتى ما إن انتهت الحرب في أوكرانيا، فإن الاقتصاد العالمي بحاجة إلى نحو ثلاث سنوات من أجل التعافي، في ضوء ما تُظهره تقارير دولية مختلفة، بالنظر إلى حجم الخسائر الناجمة عن تداعيات الأزمة الراهنة.