هنري كيسنجر والواقعية السياسية.. نجاحات مثيرة للحزن

ت + ت - الحجم الطبيعي

هيمن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، الدبلوماسي المخضرم، الذي توفي اليوم، على السياسة الخارجية الأمريكية فترة طويلة حتى بعد خروجه من السلك الدبلوماسي الرسمي، وأصبح رائد ما بات يسمى في عالم الدبلوماسية بـ«الواقعية السياسية»، وهو مذهب سياسي يخالف مبادئ المثالية السياسية، وبتعبير أوضح يضع هذا التيار الأخلاق جانباً في الممارسة العملية.

بنى كيسنجر رؤيته السياسية في سنوات خدمته مستشاراً للأمن القومي ثم وزيراً للخارجية بين عامي 1969 - 1977، على مبدأ «توازن القوى»، وهو مبدأ لا يجعل مهماً ما تفعله أي دولة داخل حدودها طالما أنها تتبنى سياسة خارجية بناءة، وهذا ما يضع كيسنجر على نقيض مع التيارات المثالية، التي تتبنى سياسات عدائية تجاه حلفاء محتملين لها، بسبب قضايا مثل حقوق الإنسان والديمقراطية، لذلك تعرض كيسنجر إلى هجوم فكري طويل بتهمة أنه أحد الداعمين للدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية، لأن هذه الأنظمة كانت تحارب الشيوعية، وبالنسبة لكيسنجر فإن الأولوية حينها هي محاربة الشيوعية لا الديمقراطية، كما أعطى الأولوية للتوافقات مع الدول الكبرى، وغالباً كانت هذه التوافقات تكون على حساب دول صغيرة وفقيرة وشعوبها ترزح تحت الفقر، وكأن دبلوماسية الواقعية السياسية تقول هنا إنها لا تعترف سوى بالكبار، وأن لا مكان للصغار في هذا العالم. رغم ذلك لم تكن هذه الحقائق المؤلمة في عالم المثل والأخلاق السياسية شيئاً مريحاً لكيسنجر، بل كانت محزنة له، وقد عبر عن أسفه عدداً من المرات لدفعه مسار الأحداث نحو صفقات وقع ضحيتها ضعفاء وفقراء، مثل اتفاقية الجزائر بين إيران والعراق عام 1975، والذي أنهى الحركة المسلحة الكردية في العراق، بقيادة ملا مصطفى البارزاني، وتفسيره لهذا الاتجاه جملة ظل يكررها: «آسف.. إنها مصلحة أمريكا».

شبح ميترنيخ
وليس هناك شخصية أقرب إلى كيسنجر في مبدأ «توازن القوى»، وانضباط النظام الدولي، بغض النظر عن الأيديولوجيات، أكثر من وزير خارجية النمسا في الفترة ما بين عامي 1809 إلى 1848، كليمنس ميترنيخ، والذي وضع قواعد ملكية للاستقرار في أوروبا ضد ما سمي حينها «ربيع الشعوب» حين اندلعت ثورات في أنحاء القارة الأوروبية، وتم قمعها بقسوة، بفضل تحالفات أسس لها ميترنيخ بين أنظمة أوروبا الملكية، وأسهمت دبلوماسيته في إنهاء عصر نابليون بونابرت وما كان يمثله للطبقات الشعبية.

في كل الأحوال لم ترق الواقعية السياسية لكيسنجر لعدد من الإدارات الأمريكية، وأبرزها إدارة بايدن، فقد اقترح كيسنجر منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا أن «تتخلى أوكرانيا عن بعض الأراضي» لصالح روسيا. هكذا ببساطة وشفافية رأى كيسنجر الحل. لا يهم ما الذي يمثله الرئيس فلاديمير بوتين، ولا «الآمال الديمقراطية» على أوكرانيا. بالنسبة له تستطيع موسكو أن تحارب إلى ما لانهاية ولن تهزم في حرب تقليدية. وأثارت هذه الآراء استياء القيادة الأوكرانية والداعمين لها في أنحاء العالم. لكن كيسنجر لم يكترث، وكرر اقتراحه مراراً في كل ظهور إعلامي له منذ اندلاع الحرب.

محطات في حياة كيسنجر
نمت قوة كيسنجر خلال الاضطرابات التي تلت فضيحة ووترغيت عام 1972، عندما صار مقربا للغاية من الرئيس نيكسون، وصار يشاركه الحكم الى حد كبير.

كتب كيسنجر لاحقاً عن نفوذه المتزايد في عهد نيكسون، قائلا «لا شك أن غروري كان طاغيا. لكن العاطفة السائدة كانت بمثابة إنذار بالكارثة».

كيسنجر يهودي فر من ألمانيا النازية برفقة عائلته وهو في سن المراهقة، واكتسب في سنواته الأخيرة سمعة رجل دولة ذا هيبة، حيث ألقى خطابات، وقدم مشورة لرؤساء جمهوريين وديمقراطيين على حد سواء، وأدار شركة استشارات عالمية.

ظهر كيسنجر في البيت الأبيض خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب في مناسبات عدة. لكن وثائق وأشرطة - تعود إلى عهد نيكسون وتسربت على مر السنين - كشفت عن مدى نفوذ كيسنجر في حكومة الولايات المتحدة.

لم يتخلص كيسنجر من منتقديه أبدا، فبعد أن غادر منصبه، طارده منتقدون قائلين إنه يجب استدعاؤه للمساءلة عن سياساته في جنوب شرق آسيا، ودعمه لأنظمة قمعية في أمريكا اللاتينية.

تنوع نشاط كيسنجر في نطاق واسع من قضايا السياسة الخارجية الرئيسية. وقام بأول جولة دبلوماسية مكوكية للسعي من اجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط. واستخدم قنوات سرية لمتابعة العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، لينهي عقودا من العزلة والعداء المتبادل.

كما أطلق كيسنجر «مفاوضات باريس» التي وفرت وسيلة لحفظ ماء الوجه وأطلق عليها فترة فاصلة لائقة لإخراج الولايات المتحدة من حربها المكلفة في فيتنام.

كما اتبع سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفيتي، والتي أدت إلى ابرام اتفاقيات للحد من التسلح، وأثارت احتمال ألا تستمر توترات الحرب الباردة والتهديد النووي إلى الأبد.

وفي سن التاسعة والتسعين، كان كيسنجر لايزال يعمل لتأليف كتابا عن القيادة.

وعندما سئل في مقابلة مع شبكة (ايه بي سي) في تموز عام 2022 عما إذا كان يرغب في التراجع عن أي من قراراته، اعترض قائلا: «كنت أفكر في هذه المشكلات طوال حياتي. إنها هوايتي ومهنتي كذلك. التوصيات التي قدمتها كانت أفضل ما كنت قادرا عليه في ذلك الوقت».

وعندما سئل خلال مقابلة أجرتها معه شبكة (سي بي إس) - في الفترة التي سبقت عيد ميلاده المائة - عمن ينظرون إلى سياساته الخارجية باعتبارها نوعا من «الإجرام»، اعترض كيسنجر بشدة. وقال: هذا يعكس جهلهم".

وواصل كيسنجر مشاركته في الشؤون العالمية حتى في أشهره الأخيرة. فالتقى الزعيم الصيني، شي جين بينغ، في بيجين في يوليو الماضي، حيث كانت العلاقات الثنائية بين البلدين عند أدنى مستوياتها.

وبعد مرور 50 عاماً على دبلوماسيته المكوكية التي ساعدت في إنهاء حرب أكتوبر عام 1973، عندما تعرضت إسرائيل لهجوم مفاجئ من مصر وسوريا، حذر كيسنجر من مخاطر تكرار هذا الصراع بعد أن واجهت إسرائيل هجوما مفاجئا من حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي.

قال أنصاره إن ميله العملي خدم المصالح الأمريكية، بينما رأى منتقدون اتباعه ”نهجاً مكيافيلياً” يتعارض مع المثل الديمقراطية.

تعرض كيسنجر لانتقادات لأنه سمح بالتنصت على مكالمات هاتفية لصحفيين وموظفين بمجلس الأمن القومي الامريكي لوقف تسريب أخبار البيت الأبيض في عهد نيكسون.

كما واجه انتقادات بسبب قصف وغزو الحلفاء لكمبوديا في أبريل عام 1970، والذي كان يهدف لتدمير خطوط الإمداد الفيتنامية الشمالية للقوات الشيوعية في فيتنام الجنوبية.

ألقى البعض باللوم على هذا التوغل، كما أسماه نيكسون وكيسنجر، لأنه ساهم في سقوط كمبوديا في أيدي متمردي الخمير الحمر، والذين ذبحوا نحو مليوني كمبودي في وقت لاحق.

وعمل كيسنجر جاهدا لفضح - ما أشار إليه عام 2007 بأنه ”أسطورة سائدة” - مفادها أنه ونيكسون اتفقا عام 1972 على شروط السلام المرتبطة بحرب فيتنام، وبالتالي أطالت أمد الحرب دون داع على حساب عشرات الآلاف من الأرواح الأمريكية.

شدد كيسنجر على أن الطريقة الوحيدة لتسريع وتيرة انسحاب القوات من فيتنام كانت الموافقة على مطالب هانوي بأن تقوم الولايات المتحدة بالإطاحة بحكومة فيتنام الجنوبية، واستبدالها بقيادة يهيمن عليها الشيوعيون.

كما تعرض كيسنجر لانتقادات من جانب العديد من الأمريكيين بسبب سلوكه الدبلوماسي في زمن الحرب. ففي عام 2015، لم يستطع كيسنجر، البالغ من العمر 91 عاما آنذاك، الوصول الى مقر مجلس الشيوخ بسبب متظاهرين طالبوا باعتقاله بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ونددوا بأفعاله في جنوب شرق آسيا وتشيلي ودول أخرى.

ولد هاينز ألفريد كيسنجر في مدينة فورت البافارية في السابع والعشرين من مايو عام 1923، وكان والده معلما بإحدى المدارس.

غادرت عائلته ألمانيا النازية عام 1938 واستقرت في مانهاتن، حيث غير والده اسمه إلى هنري.

لدى كيسنجر ولد وبنت، إليزابيث وديفيد، من زوجته الأولى التي انفصل عنها عام 1964. أما زواجه الثاني فكان من نانسي ماغينيس عام 1974.

Email