الساحل الأفريقي.. أوضاع هشة تفاقم مخاطر تنامي تنظيمات العنف والتطرف

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تظهر بيانات إحصائية، صادرة عن مراصد عدة، فضلاً عن تقارير أمنية وسياسية، أن وتيرة العمليات المسلحة في قارة أفريقيا شهدت تراجعاً، بل تباطؤاً، في معظم فترات العام الماضي.

مقابل ذلك، نبهّت إلى أنها، في بعض الدول، بينها: دول الساحل الممتدة من المحيط الأطلسي، وصولاً إلى السودان، ثم إريتريا، على وجه الخصوص، حققت انتعاشاً مدفوعاً بتصاعد الأزمات الداخلية والخارجية الخانقة، لتسجل القارة السمراء أكثر من 350 عملية مسلحة أسفرت عن سقوط ما يزيد على 3300 ضحية.

رغم التراجع النسبي لنشاط التنظيمات الإرهابية في عدة محاور داخل أفريقيا، إلا أن مخاوف واسعة تفرض نفسها حيال انتعاشة أوسع، فيما ترزح بعض الدول الأفريقية تحت وطأة صراعات وتطورات داخلية مفصلية، بخلاف الأوضاع الاقتصادية، والسياسية، وارتدادات الأزمات العالمية، وغيرها من العوامل التي تنمي بيئة خصبة للنشاط المسلح.

تتجه الأنظار بصفة خاصة إلى منطقة الساحل الأفريقي، حيث الديناميكيات المتغيرة للإرهاب هناك جلية، مع عودة حمى الانقلابات في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وتداعياتها الممتدة، ما رشح عنها حالة فراغ أمني، نتيجة تقليص التواجد العسكري الغربي، أبرزها القوات الفرنسية، ومهمات حفظ السلام في مالي.

استغلت التنظيمات الإرهابية، في صدارتها «داعش»، تلك المعطيات، ففرضت نفسها على المشهد، وعبر أدوات وتكتيكات متجددة، في دول مثل، مالي (لاسيما منطقة الوسط)، والنيجر، وبوركينافاسو، جميعها تشهد حضوراً نشطاً ضمن خريطة انتشار هذه التنظيمات في أفريقيا، بما يهدد بتمدد سريع للأزمات من دول الساحل إلى باقي دول وكيانات القارة السمراء.

عوامل داعمة

بعد فترة استقرار سجلت تراجع ظهور وتأثير الجماعات المسلحة في أفريقيا، عامة، وفي منطقة الساحل والصحراء الأفريقية، خاصة، وبعد جمود نمو وانتشار الفكر المتطرف في المنطقة ذاتها، تظهر أخيراً عوامل داعمة تنذر بزيادة العنف والتطرف، والعودة لفترات سابقة، أحكمت خلالها جماعات مسلحة قبضتها على مقاليد الأمور في المنطقة، مثل: تنظيم «القاعدة» الإرهابي، والجماعات المسلحة الأصغر، التي تتبني فكر ونهج «القاعدة»، أو تندرج تحت لوائه، كذلك «داعش» وجماعات مسلحة تحت سيطرتها.

هذا ما يؤكده في تصريحات لـ«البيان»، خبير الشؤون الأفريقية، نائب رئيس مركز «العرب» للأبحاث والدراسات، رامي زهدي، أنه رغم تراجع النشاط الإرهابي في أفريقيا، إلا أن مناطق النفوذ بقيت مقسمة بين التنظيمات على النحو التالي: مقاطعات أنسونغو، شرقي مالي (نفوذ «داعش»)، غاو، شمال شرقي مالي (صراع بين «داعش» وجماعة «النصرة»)، أودالان في بوركينافاسو، المتاخمة لمالي والنيجر («داعش»)، سوم، شمالي بوركينافاسو («النصرة») سينو، شمالي بوركينافاسو («داعش»)، جنوب شرق وغرب بوركينافاسو («النصرة»)، جوثي وتورودي، غربي النيجر («النصرة»).

يقول زهدي: بالعودة إلى العوامل الداعمة لعودة قوية للجماعات المسلحة، يمكن صياغة بعض هذه العوامل في عدد من النقاط الأساسية، أولها: ما يرتبط بتراجع الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير وغياب الأمن، سواء الأمن بمفهومه النمطي، وكذلك الأمن الغذائي والطاقي، وهي أسباب تؤثر جداً في الظروف الأمنية.

ويضيف: سمح ذلك بتعزيز فرص تنامي عمل الجماعات المسلحة، وتوسع الفكر المتطرف جغرافياً، وكذا في عقول الشباب الأصغر سناً، فاقدي العمل والأمل، هم الفئات المستهدفة دائماً للتجنيد.

علاوة على ذلك، وفق زهدي، حالة الاضطراب السياسي بعد عدة تغييرات جوهرية في أنظمة الحكم والسياسات الخارجية والداخلية على حد سواء لعدد من الدول بالمنطقة، أبرزها: النيجر، ومالي، وبوركينافاسو.

كذلك يلفت إلى تأثير انسحاب عدد كبير من القوات الغربية المشتركة المعنية بالمساعدة في مواجهة الإرهاب، لاسيما القوات الفرنسية، وجمود عمل القوات الأجنبية التي لا تزال باقية، جنباً إلى جنب مع حالة العداء والصراع بين دول أفريقية والغرب عموماً، وفرنسا خصوصاً، ما يفتح آفاقاً للجماعات المسلحة بشأن استثمار هذا الصراع في تبرير المزيد من الأعمال الإرهابية.

أسباب ضاغطة

من بين أبرز الأسباب أيضاً، في تقدير نائب رئيس مركز «العرب» للأبحاث والدراسات، تراجع العمل المشترك والتعاون القاري (الأفريقي - الأفريقي)، خاصة بين تكتل الدول الثلاث: النيجر، وبوركينا فاسو، ومالي، من جهة، وبين دول تجمع «إيكواس»، من جهة أخرى. جميعها ضغوط تأتي في خطٍ متوازٍ، تتزامن مع تراجع مبادئ الحياة الأولية الكريمة لمعظم شعوب هذه المنطقة.

يضاف إلى ذلك تمدد قنوات الاتصال السلبية بين العديد من القبائل والعشائر، من دولة أفريقية إلى أخرى، في ظل سيولة سلبية للحدود بين تلك الدول، ما يمنح دعماً لوجستياً كبيراً، وعبور الحدود والوصول إلى الجماعات المسلحة. هذا فضلاً عن معضلة توافر السلاح بكميات كبيرة، وبأنواع متقدمة، ما رشح عنه وقوعه في أيد لا تجب عليها حمله، مثل: القبائل والمجموعات العرقية، بالتوازي مع الجيوش الوطنية في الدول الأفريقية، التي يجب أن تكون أعمال الحماية والدفاع خالصة لها دون غيرها.

ويكمل زهدي: مع غياب مبادئ حقوق الإنسان في عدد من الدول الأفريقية، إضافة إلى الأداء الديمقراطي المترهل، تزيد احتمالات ظهور أجيال جديدة، منتمية لجماعات العنف والتطرف، أو على أقل تقدير غير رافضة لوجودها.

يتزامن ذلك أيضاً مع التدخلات الكبيرة من قوى دولية، شرقية كانت أم غربية، وأخرى إقليمية، تتنافس، في الوقت الراهن، على الظفر بثروات القارة السمراء، ما يجعل بعضها تستخدم هذه الجماعات كأدوات، تقدم لها الدعم المباشر وغير المباشر.

رؤية غير واضحة

علاوة على عدم وضوح رؤية الاتحاد الأفريقي في هذه الظروف الصعبة في التعامل بشدة مع القوى الدولية من خارج القارة التي ثبت ضلوع بعضها في دعم وتوجيه واستخدام الإرهاب كسلاح ضد شعوب القارة وضد جهود التنمية، بحسب زهدي.

ويستطرد: في ظل ظروف اقتصادية صعبة يواجهها العالم في هذا التوقيت، تظهر عمليات نقل وتطهير أموال في القارة الأفريقية، يوظف جزء كبير منها لدعم عودة الجماعات المسلحة، مرة أخرى، لتحقيق مصالح شخصية، ومؤسسية، ودولية.

مؤشر الإرهاب

وضع «مؤشر الإرهاب في أفريقيا 2023»، الصادر عن مرصد «الأزهر» لمكافحة التطرف في مصر، منطقة الساحل والصحراء، ضمن أكثر أقاليم القارة السمراء تعرضاً لأعمال العنف والتطرف خلال العام الماضي، بواقع 121 هجوماً، سبقها إقليم القرن الأفريقي، بواقع 140 عملية، تلاها إقليم غرب القارة، بـ60 عملية.

ذلك من إجمالي 361 عملية إرهابية، أسفرت عن مقتل 3360 شخصاً، وإصابة 913 آخرين، واختطاف 382، بخلاف تأثيراتها الأخرى المرتبطة بالتشريد والنزوح، على الرغم من تباطؤ وتيرة العمليات في بعض الدول خلال 2023.

جاءت منطقة الساحل في المرتبة الأولى من حيث عدد ضحايا تلك العمليات، بإجمالي 1393 قتيلاً، تلتها منطقة شرق القارة، بما يصل إلى 1038 قتيلاً، فيما حلت منطقة وسط أفريقيا ثالثاً، بـ471 قتيلاً.

أما من حيث الدول، فأتت بوركينافاسو (الواقعة في إقليم الساحل الأفريقي) أولاً، إذ تعرضت إلى 67 هجوماً، أسفر عن سقوط 955 قتيلاً.

عوامل أساسية

ويصرح الباحث في شؤون الحركات المتطرفة والإرهاب الدولي، منير أديب، لـ«البيان»، أن ثمة جملة عوامل تدفع نحو تنامي جماعات العنف والتطرف في منطقة الساحل الأفريقي، بينها: عوامل محلية (داخلية)، وأخرى: إقليمية، ودولية (خارجية).

العوامل الداخلية، فترتبط بشكل مباشر بأنظمة سياسية تبدو هشة في بعض البلدان، وكذلك أنظمة أمنية تبدو ضعيفة في مواجهة تلك الجماعات، فضلاً عن عوامل لها علاقة بالمحيط الإقليمي الذي شهد عدداً من الانقلابات في السنوات الماضية، بما انعكس بشكل واضح على تنامي نشاط تلك الجماعات.

أما العوامل الخارجية، فترتبط، بحسب أديب، بانشغال المجتمع الدولي بصراعات وحروب عديدة، نشبت في مناطق مختلفة، كشرق أوروبا (الحرب الروسية الأوكرانية، الممتدة منذ 22 فبراير 2022)، وكذلك الشرق الأوسط («حرب غزة» منذ السابع من أكتوبر 2023)، وكذلك الصراعات في الدول الأفريقية الكبرى، مثل: السودان وليبيا.

كانت لتلك الحروب والأزمات انعكاسات واضحة على دور المجتمع الدولي في مكافحة جماعات العنف والتطرف داخل القارة السمراء، مع تأثر واسع للجهود الدولية في هذا الصدد، لاسيما فيما يتعلق بدور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتصل بالحضور الفرنسي الذي تقلص بشكل واسع، وباتت ملامحه غير واضحة.

كما يسهم تداخل التوترات القومية والعرقية في تصاعد العنف، ما يفتح المجال أمام التنظيمات الإرهابية لتعزيز أجنداتها. أما التصدي لهذه التحديات، فيتطلب الأمر جهداً مشتركاً على الصعيدين الأمني والتنموي. إذ يتعين تعزيز التعاون الإقليمي، وتبادل المعلومات لمكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى دعم برامج التنمية الاقتصادية، للمساهمة في تحسين ظروف المعيشة، وخلق فرص عمل، أملاً في تقليل تأثيرات الفقر وضعف الاستقرار الاقتصادي.

في سياق التنمية، يتعين تعزيز الاستثمارات في التعليم والتدريب المهني لتمكين الشباب من اكتساب المهارات الضرورية للتوظيف. كما يتعين تشجيع على إقامة مشاريع تنمية اقتصادية مستدامة وتحفيز ريادة الأعمال لتعزيز التنمية الشاملة، وجميعها عوامل أساسية من شأنها معالجة البيئة الأساسية، جنباً إلى جنب وأنشطة وجهود مكافحة الإرهاب.

ووفق دراسة صادرة عن المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، فإنه خلال العام الماضي، تؤكد وتيرة الإرهاب تزايد أنشطة الجماعات المتطرفة في غرب أفريقيا، حيث سجلت العديد من الهجمات تبنتها جماعات موالية لـ«داعش»، و«القاعدة». كما أصبح تهديد الجماعات المتطرفة، ينتقل تدريجياً من منطقة الساحل إلى الدول الساحلية على طول خليج غينيا. وتمكنت جماعات متطرفة في أفريقيا من استقطاب وتجنيد العديد من الشباب من خلال الدعاية على وسائل التواصل الاجتماعي لشن هجمات مستقبلية.

تحولات

تشهد القارة الأفريقية عدداً من التحولات على صعد مختلفة، قد تدفع إلى توقع المزيد من العنف، وتغلغل الكيانات الإرهابية، بحسب مرصد «الأزهر»، من بين أبرز تلك التحولات ما يتعلق بحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في كثير من دول القارة، علاوة على استمرار عدد من الأزمات المسلحة والحروب، كالحرب في أوكرانيا (وتداعياتها الممتدة)، والصراع الداخلي في السودان، والصراع المسلح في شمال مالي، و«حرب غزة»، وتداعياتها جميعاً على الاقتصاد العالمي.

تضاف إلى ذلك الآثار الممتدة للتغيرات المناخية، ووقوع عدد من الكوارث الطبيعية التي قيدت التحركات العسكرية في بعض الدول. ويستدل مرصد «الأزهر» في ذلك -على سبيل المثال - بالفيضانات في الصومال، التي أدت إلى تباطؤ العمليات العسكرية الحكومية ضد معاقل حركة «الشباب»، التي استغلت الفيضانات في تعزيز حاضنتها الشعبية من خلال القيام بعمليات الإنقاذ وتقديم المساعدات إلى المناطق المتضررة.

كما أنه من بين أبرز المتغيرات، ما ارتبط بتسارع وتيرة خروج مهمات وبعثات حفظ السلام الأممية والإقليمية من مناطق مكافحة الإرهاب، وتصدع بعض التحالفات الأمنية خلال العام، علاوة على تبني التنظيمات المتطرفة أنماطاً مختلفة للهجمات الإرهابية، تماشياً مع الحملات الأمنية الموسعة ضد معاقلها، ما ساعدها على البقاء والانتشار.

Email