حتى الأمس القريب، لم يكن وسط بيروت بديهيّاً للآتين إليه من أطرافه. كان تجريباً صعباً على المدنيّة، وحقلاً لاختبار الأحلام ومحاولات تحقيقها. كان للبعض شوارع ومقاهٍ، بأمسياته التي لا تنام.

وكان للبعض الآخر مدينة قائمة بحدّ ذاتها، تردّد مع الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش «بيروت خيمتنا»، «بيروت، ميناءٌ لتجميع المدن». «وسط بيروت».

وفي الأسماء تكمن حكاية مكان لا يشبه إلا نفسه، ولا مكان ينافسه على صدارة الأحداث. جاور البحر منذ تأسّس، ولم يتأثّر بالموج مهما علا أو جار، وهو لطالما استهلك أماكنه وبرع في إعادة صوْغ البدايات، والأكثر شبهاً به، وأضاف فضاءً جديداً إلى فضاءاته المتعدّدة:

نبْض المدينة في زمن السلم «الخيْمة» الدائمة للتعبير والاعتراض في زمن الأزمات، مستودع الانقسام السياسي المدوّي مع «8 و14 آذار»، ومسرح المواجهة المفتوحة بين الانتفاضة والسلطة حتى إشعار آخر. 

من بوّابة هذا المكان، بموقعه الجامع، الذي يوصِل قلب المدينة بأطرافها كافّة، المسكون بمبانٍ يتآخى فيها التراث مع الحداثة، ويحتضن المؤسّستيْن الأهمّ في الدولة: البرلمان والحكومة، والذي رست مشهديته الأخيرة على مساحة مزروعة بـ «خيم الثورة»، والعوائق الحديديّة والدشم الإسمنتيّة، والبوّابات السود والجدران العازلة، إلى حدّ دفع أحدهم إلى القول:

«ما بقى في بالوسط إلا الحيطان»، فإنّ في المقلب الآخر من الصورة، بعض من لا يزال يرى فيها نفسه وماضيه، ومنها يرى الجهة الأخرى بعيْن «قنّاص» الحياة أو الموت، فيما البعض الآخر يتعرف إلى ماضٍ سمع عنه أو لم يقرأه، ومن زاويته يقرأ بين سطور بيروت شارعاً شارعاً، بصورتها التي هي من صورة وسطها لأجل غير مسمّى.

«ساحة البرْج»، «البلد»، «ساحة الشهداء» «ساحة النجمة» أو «ساحة رياض الصلح»، بالأبيض والأسود قديماً. «الوسط التجاري»، «وسط المدينة»، «وسط بيروت»، الـ«داون تاون»، بالألوان المتعدّدة حديثاً. أسماء متعدّدة لمكان واحد، لا يقع في الوسط الحقيقي لمدينة بيروت الكبرى، إنّما هو في طرفها، وتحديداً في الجهة الشماليّة- الغربيّة منها..

أمّا هذه الوسطيّة، اقتصادياً واجتماعيّاً وسياسيّاً، فمردّها، قديماً وحديثاً، إلى المكان الذي يختصر بيروت كلّها، وهو الذي كان.

ولا يزال، يجمع اللبنانيّين، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم، يحضن تناقضاتهم بصدر واسع، ويترك لدى روّاده ذكرى تسكنهم، فيعودون إليه مهما تغيّرت أحواله وتبدّلت.. فيه تنتشر الأسواق والمقاهي والمطاعم والحانات، المصارف والإدارات العامّة، السراي الحكومي ومبنى البرلمان ومبنى «الإسكوا»، شارع المصارف ومبنى «أسواق بيروت» الكبير.

بالإضافة إلى عدد من مقرّات السفارات الأجنبيّة. أمّا أرصفته، فتروي زمن الحرب والسلم، الماضي والحاضر، الذاكرة والنسيان. وبمعنى أدقّ، فإنّ هذا «الوسط»، بصوره التي تتنقّل بين زمنيْن، هو الصورة المصغّرة عن لبنان ما قبل الحرب وخلالها وما بعدها، والذي لطالما اعتاد أن يطأ الموت بالحياة. 

مشاهد من سجلّ المكان

المشهد الأوّل: في سجلّ هذا المكان قصصٌ كثيرة، منها أنّ الجدّ الأكبر، الذي عاد شابّاً في نهاية الحرب العالمية الأولى من الهروب الكبير إلى الجولان وسهل حوران في سوريا، قصد هذا المكان، ليبحث بماله القليل عن قطعة أرضٍ يشتريها، وتحديداً.

حيث كان الترامواي «فرجة» فيه تستحقّ أن تُروى، وحيث كانت اللافتة تقول: «بيروت خبز الفقير، وبيت المهاجر»، إلى جانب لافتة البلديّة: «ممنوع التزمير».

المشهد الثاني: في أوائل الستينيّات، وقبل الانتهاء من بناء جسْر فؤاد شهاب، المعروف بــ «جسْر الرينغ»، الذي يربط بين شرق بيروت وغربها، كانت «ساحة البرج» أو «ساحة الشهداء» أو «البلد» أو «الوسط»، على صورة «كاراج» كبير، حيث الممرّ الإجباري للّبنانيّين لمغادرة بيروت، أو للتنقّل بين أحيائها. وفي تلك الساحة.

حيث صاغ الكثيرون حياتهم على فنجان قهوة، كانت تتوزّع مواقف السيّارات والباصات التي تنقل الركاب نحو سائر المناطق اللبنانيّة.

ومن «أيّام عزّ» تلك المرحلة، لا يزال «أبو غسّان»، الرجل الثمانيني، يستذكر أغنية المطربة الراحلة صباح «جينا نبيع كبوش التوت/ ضيّعنا القلب ببيروت»، ويتخيّلها تبيعه في «ساحة البرْج»، وقرب الحديقة التي تتوسّطها، والتي تبدو، في الصور «العتيقة» لبيروت الستينيّات، مكتظّة بالسيّارات والمارّة والباعة المتجوّلين.

كما يستذكر «سوق البهارات» على مقربة من «سوق الذهب»، و«سوق القباقيب» على مقربة من «سوق الحِبال والملابس المستعملة»، و«سوق السمك» قرب «سوق الأحذية». وذلك، من دون أن يغفل «الأصول والممنوعات» التي كانت ترافق التجوّل في المكان، إذْ كان ممنوعاً التجوّل ليلاً من دون مصباح، تماماً كما كان ممنوعاً الكلام المبتذل والإسفاف والمسبّات، ووضع «السحاحير» (الصناديق) أمام المحال.

دوان تاون بيروت 

المشهد الثالث: أن يقول أحدهم، قديماً، إنّه متوجّه إلى بيروت، فإنّه كان يعني، ضمناً، الذهاب إلى وسط المدينة أو «ساحة البرْج» أو «ساحة الشهداء» أو «ساحة النجمة» أو «ساحة رياض الصلح»، المكان المحاط بالحارات والمليء بالحياة.

وذلك، قبل أن تنقلب التسمية لتصبح «داون تاون»، وتحديداً منذ «اتفاق الطائف» (1989)، الذي أنهى الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975- 1990)، مع ما تعنيه هذه المرحلة في تاريخ هذا المكان، الذي وُضِع حجر الأساس لإعادة بنائه في عام 1992، وأُنجِز خلال سنوات قليلة، متماهياً مع الصورة التي تخيّلها البعض لعاصمتهم، ولحياتهم فيها، وتحديداً بين عامَي 2000 و2006.

وإنْ بدا كأنّه انسحب فجأة من ماضيه، وأفرغ تقريباً كلّ رصيده الماضي من ذاكرة وعتق، ومحا بقسوة موصوفة كلّ آثار الأقدام التي وطئته.

وذلك، بعدما كُتب على هذا الوسط، أن يتحمّل مآسي الحرب الأهليّة، التي جعلت منه «خطّ التماس» الأوّل، الذي كان يفصل شرق بيروت عن غربها، حيث احترقت الجثث، وارتفعت السواتر الترابيّة، ونبت شجر الخروَع، واستوطنت الكلاب «الداشِرة»، وأحالته مشهداً من رماد وركام.

مستقبل افتراضي 

المشهد الرابع: منذ 14 فبراير من عام 2005، تاريخ اغتيال واضع خطّة إعادة إعمار وسط بيروت، ورافع شعار «بيروت مدينة عريقة للمستقبل»، رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، تحوّل هذا الوسط من كونه «مشروعاً للمستقبل» المحدّد المواصفات، إلى مستقبل «افتراضي» أو مؤجّل على الدوام، إذْ باتت ساحاته مخصّصة للاعتراض على أنواعه.

حيث يتظاهر ويعتصم كلّ صاحب قضيّة أو مطلب، إلى أن تحوّلت مركزاً لـ «الثوّار» على المنظومة الحاكمة والنظام السياسي، وتحديداً منذ 17 أكتوبر من عام 2019. وما بين المشهديْن، كانت تظاهرات قوى «8 آذار» و«14 آذار»، وأُقفل الوسط لأعوام ممتدّة حتى عام 2008.

كما كان شاهداً حيّاً على دويّ انفجار مرفأ بيروت، في 4 أغسطس من العام الفائت، الذي ترك في أرجائه بصماته الواضحة، وتسبّب بضياع الكثير من معالمه، فيما بدا صورة مستعادة من أفلام الحروب في سمائه.

وما بين المشاهد التي تكرّ كسبحة، كُتِب على هذا الوسط، أن يتحمّل نتائج الانقسامات السياسيّة اللبنانيّة، وقُيِّض لكلّ شبرٍ فيه أن يسرد حكايات «الانتفاضة» المستمرّة. حكايات تسردها الجدران المؤدّية إلى ساحات المكان، وأبرزها «حائط الثورة»، الذي خُطّت عليه عبارة «الحكم للشعب»، تماماً كما تسردها المربّعات الأمنيّة التي لا يدخلها أحد، والمسيّجة بالصمت والغياب حتى إشعار آخر.

ومن بين الجدران والمربّعات الأمنيّة، ووسط ثورة المطالب وفوْرة الألوان، فإنّ في الصورة البانوراميّة للوسط «المعلّق»، مبنى «البيْضة» الأثري الشهير (الـ «سيتي سنتر» قبل 50 عاماً)، الذي لا يزال، بخدوشه وثقوبه وبسلّمه المهترئ، وبدلالاته الرابطة بين الماضي والحاضر، وما تخبّئه للمستقبل، رمزاً لـ «الثورة»، وشاهداً على الفراغ الذي لا يليق بالمكان.