يطلق الليبيون على طرابلس، لقب عروس البحر، وأرض الزهر والحنّاء، وبلد الطيوب، وهي الجميلة العريقة الضاربة في قدم التاريخ، والمتربعة على أحد تفاصيل سحر الجغرافيا، حيث تتشكّل كلوحة فسيفساء على رأس صخري، يطلّ من الضفة الجنوبية للمتوسط، مقابل الرأس الجنوبي لجزيرة صقلية الإيطالية، لتؤكد بذلك، على علاقتها الأزلية مع البحر، التي جعلت منها رمزاً لعراقة التاريخ، والقدرة على مواجهة التحديات.
وطرابلس ليبيا، أو طرابلس الغرب، نشأت في القرن السابع للميلاد، كمستوطنة للفينيقيين، تربط بين تجارة البحر وتجارة الصحراء، حيث كانت جسر تواصل بين الضفتين، وبوابة شمالية للقارة الأفريقية، وباتساع نفوذ قرطاج، وصعودها كإمبراطورية للفينيقيين، اتسع دور طرابلس، التي كانت تحمل آنذاك اسم «أويا»، فشهدت نهضة عمرانية ونمواً اقتصادياً مهماً، وكانت معروفة إلى جانب كونها مركزاً تجارياً، بالزراعة وصناعة الفخار والنسيج، وغيرها من المهن.
وأما اسم طرابلس، فهو تعريب لكلمة «تريبولي» الإغريقية، وتعني المدن الثلاث، أو العاصمة المثلثة، في إشارة إلى أويا، وهو الاسم القديم لليبيا ذاتها، ولبتش مانيا (لبدة الكبرى حالياً)، ولبروتون بولس كاي ليمن (صبراتة حالياً).
ويرى المؤرخون أن طرابلس كانت دائماً مبنية ومأهولة بالسكان، وبالتالي، لم تتح الفرص لإجراء حفريات فيها، على غرار الحفريات التي أجريت في صبراتة ولبدة الكبرى، والتي كشفت عن ثروة طائلة من الآثار التي لا تقدر بثمن، والتي تجعل من ليبيا واحدة من أغنى الدول في هذا المجال.
قوس النصر
وقد يكون أهم معلم أثري قائم في طرابلس حالياً، هو قوس النصر في البلدة القديمة، والذي يحمل اسم الإمبراطور الروماني السادس عشر، ماركوس أوريليوس، الذي حكم خلال الفترة ما بين 161 و180 ميلادي.
وخضع الإقليم لحكم الوندال في القرن الخامس ميلادي، وللحكم البيزنطي في القرن السادس، وتعرضت لغزوات الوندال، التي دمرت أسوار لبدة وصبراتة، وقد استفادت طرابلس من ذلك، لتصبح الأكثر حركية اقتصادية في المنطقة ككل، وفي عام 645 م، فتحها العرب المسلمون، زمن خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وبقيت المدينة تحت الحكم العربي بعد ذلك (ما عدا من 1146 - 1158 م، عندما استولى عليها النورمان الصقليون)، واحتلها الإسبان من عام 1510 م، وحتى أن سلموها لفرسان القديس يوحنا من مالطا عام 1531 م، الذين سيطروا عليها بدورهم حتى عام 1551 م، ليتسلمها العثمانيون، وفي عام 1711، قاد أحمد القرمانلي، وهو ضابط في الجيش العثماني، شعبية أطاحت بالوالي التركي، في مسعى للانفصال عن حكم الأتراك، وقد وافق السلطان على تعيين القرمانلي باشا على ليبيا، ومنحه قدراً كبيراً من الحكم الذاتي.
كان القرمانليون يمتلكون أسطولاً قوياً، جعل طرابلس تتمتع بشخصية دولية، وأصبحت تنعم بنوع من الاستقلال، واتجهت لفرض شروطها على السفن العابرة قبالة سواحلها، ودخلت في مواجهات مع الولايات المتحدة، بعد أن رفعت من الرسوم المستحقة على سفنها التجارية، لتأمين سلامتها عند مرورها من المياه الليبية، وصادف أن قام الأمريكيون آنذاك بتدشين أول انتشار عسكري بحري، بواسطة الفرقاطة فيلادلفيا، التي أسرها الطرابلسيون في 31 أكتوبر 1803، وعلى متنها 308 بحارة أمريكيين، استسلموا جميعاً، وعلى رأسهم قائدها الكابتن ويليام بينبريدج، وتم إرساء السفينة المأسورة، فيلادلفيا، بجانب السرايا الحمراء في سبتمبر 1803، قبل حرقها في 16 فبراير 1804، واضطر الرئيس الأمريكي آنذاك، توماس جيفرسون، على توقيع اتفاق مع حاكم ليبيا، يوسف باشا، ودفع فدية مقابل إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين، وضمان سلامة سفن بلاده المبحرة في المتوسط.
وقد شكّل حادث السفينة فيلادلفيا، حافزاً قوياً للولايات المتحدة، للاهتمام ببحريتها (المارينز)، التي لا يزال نشيدها المعتمد حتى اليوم يردد: «من قاعات مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس، نحن نحارب معارك بلادنا، في الجو والأرض والبحر».
وكانت الولايات المتحدة، قررت تأسيس قواتها البحرية العسكرية (المارينز)، في 10 نوفمبر 1775، للرد على هجمات من تصفهم المصادر الأمريكية بـ «القراصنة المنتشرين في ساحل المغرب والجزائر وتونس وطرابلس»، وتعد معركة طرابلس من 14 مايو 1800 إلى 10 يونيو 1804، أول حرب فعلية خاضتها الولايات المتحدة خارج حدودها بعد استقلالها، وتطلق عليها اسم «الحرب البربرية»، وفي أبريل 1805، قادت القوات الأمريكية حملة درنة من برقة (شرق)، بقوات وبحرية ومرتزقة محليين، تحت قيادة ويليام إيتون، وكان الهدف منها الهجوم على طرابلس، وخلع حاكمها يوسف باشا القرة مانلي، لكنها فشلت في ذلك، فدخلت في مفاوضات، أدت إلى توقيع معاهدة إنهاء الحرب في 10 يونيو 1805. وطلب القرمانلي من الولايات المتحدة، غرامات مالية تقدر بثلاثة ملايين دولار ذهباً، وضريبة سنوية قدرها 20 ألف دولار، وظلت الولايات المتحدة تدفع هذه الضريبة، حماية لسفنها، حتى سنة 1812، حيث سدد القنصل الأمريكي في الجزائر، 62 ألف دولار ذهباً، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي تسدد فيها الضريبة السنوية.
بداية من عام 1911، خضعت طرابلس للاحتلال الإيطالي، الذي سيطر كذلك على برقة وفزان، وقام العثمانيون بالتنازل عنها لفائدة روما، وفق اتفاقية لوزان 1912، وهو ما جعل فكرة المقاومة تتبلور لدى السكان المحليين، الذي قادوا معارك عدة ضد الغزاة، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، اجتمع عدد من الزعماء السياسيين بجامع المجابرة في مدينة مسلاتة في 16 نوفمبر سنة 1918 م، للإعلان عن تأسيس الجمهورية الطرابلسية، لتكون بذلك أول جمهورية عربية، ولكن ذلك الإنجاز السياسي لم يستمر سوى ستة أشهر ونصف الشهر، ففي 1 يونيو 1919، صدر قرار بإنشاء حكومة الإصلاح الوطني، من قبل ملك إيطاليا، فيكتور عمانويل الثالث، يقضي بمنح الجنسية الإيطالية لغير المسيحيين، تسمى «تشيداتنيا»، ومعناها الطليان المسلمون أو «المطلينون»، وبتشكيل حكومة في طرابلس الغرب، يرأسها الوالي الإيطالي، وبعضوية ثمانية أشخاص من «تشيدانتانيا»، يصدر بتعيينهم قرار من الوالي الإيطالي.
في عام 1934، قامت إيطاليا بتوحيد مستعمرتيها طرابلس وبرقة، تحت اسم ليبيا، الذي لم يكن متداولاً، وإنما أخرجته من كتب التاريخ، عندما كان الفراعنة، ومن بعدهم الرومان، يطلقون على سكان المنطقة الفاصلة بين غرب مصر والمحيط الأطلسي، اسم الليبيين، أو قبائل الليبو الأمازيغية، ومن هناك، بدأت تتبلور فكرة ليبيا كدولة واحدة، وخاصة بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، وقرار الأمم المتحدة، بتمكين البلاد من استقلالها، بداية من 24 ديسمبر 1951، عندما تأسست المملكة الليبية المتحدة، التي كانت مراكز الحكم فيها موزعة بين طرابلس وبنغازي، قبل أن يتم إقرار نقل العاصمة إلى مدينة البيضاء (شرق)، وفق تعديلات الدستور المعلنة في عام 1963، لكن مجيء الضباط الأحرار، بقيادة معمر القذافي للحكم، في عام 1969، أطاح بفكرة نقل العاصمة، وجعل كل المؤسسات تتمركز في طرابلس.
وتعد طرابلس، اكتشافاً مهماً لمن يزورها، نظراً لما تحتويه من مراكز الجذب السياحي، ومن تنوع المناظر الطبيعية، بين أمواج البحر، وبساتين الفاكهة، وتعدد الأشكال العمرانية، لا سيما في المباني العتيقة، ومن أشهر أحياء طرابلس: الفرناج وعين زارة وخلة الفرجان وطريق المطار، والحي الصناعي، وباب عكارة، والنوفليين، والهاني، ورأس حسن، وسيدي المصري، والدريبي، والهضبة الشرقية والغربية، وباب بن غشير، وبومليانة وغوط الشَعال وصلاح الدين، وحي الأندلس وباب العزيزية وقرقارش وغيرها.
وبوسط طرابلس، يوجد «ميدان الشهداء»، الذي تم افتتاحه في عشرينيات القرن الماضي، تحت اسم «ميدان إيطاليا»، واستمر على ذلك الحال، حتى استقلال البلاد رسمياً في 24 ديسمبر 1951، عندما أطلق عليه اسم «ميدان الاستقلال»، وبعد إعلان القذافي عن قيام النظام الجماهيري في عام 1977، تحول ذلك الفضاء إلى «الساحة الخضراء»، ثم عاد بعد الإطاحة بالنظام السابق في عام 2011، إلى «ميدان الشهداء»، الذي يشهد تنظيم الحفلات الفنية الكبرى، والمسيرات الشعبية الحاشدة، والتظاهرات الرياضية أو الثقافية، وتتفرع منه شوارع رئيسة، مثل شارع عمر المختار، شارع ميزران، شارع 24 ديسمبر (أول سبتمبر سابقاً)، وشارع الاستقلال (امحمد المقريف سابقاً)، وفي تقاطع بين شارعي الوادي وميزران، توجد نافورة الخيول المجنحة، التي تعتبر من روائع المنحوتات الإيطالية في طرابلس، وهي توأم لنافورة موجودة في روما، وقد تم تركيزها في ذلك المكان، تزامناً مع افتتاح الميدان من قبل الإيطاليين، وبالقرب منه مبنى الوالي الإيطالي سابقاً، وبنك روما، ومسرح ميراماري، وجامع سيدي حمودة والحديقة العامة.
ومن أهم معالم طرابلس، قلعتها أو «السرايا الحمراء»، وسميت بذلك الاسم، لأن بعض أجزائها كانت تطلى باللون الأحمر خلال فترة الاحتلال الإسباني، وتطل على شارعي عمر المختار والفتح، وهي تقع في الزاوية الشمالية الشرقية من مدينة طرابلس القديمة، وتشرف على مينائها، وتبلغ مساحتها 1300 م2، وتبلغ أطوال أضلاعها: من الشمال الشرقي (115 م)، ومن الشمال الغربي (90 م)، ومن الجنوب الغربي (130 م)، ومن الجنوب الشرقي (140 م)، ويبلغ أعلى ارتفاع لها (21 م).
مبنى ضخم
وبنيت قلعة طرابلس على بقايا مبنى روماني ضخم، وكانت حصناً كبيراً للدفاع عن مدينة طرابلس في العصر البيزنطي، حيث يروى أن العرب المسلمين عندما زحفوا على طرابلس، بقيادة عمرو بن العاص في سنة 21 هـ، الموافق 642 م، وجدوا المدينة محاطة بسور قوي، ولم يتمكنوا من دخول المدينة، إلا بعد حصار دام شهراً من الزمان، وقد اهتم الحكام العرب بالقلعة، حيث يلاحظ في الجانب الشرقي منها، بقايا بعض الأبراج المرتفعة، تشبه تلك الأبراج التي كانت معروفة قبل اكتشاف البارود، وكذلك وجود بعض الجدران التي بناها العرب.
وبعد دخولهم إلى طرابلس في 25 يوليو 1510 م، قام الإسبان ببناء برجين داخل القلعة، وهما البرج الجنوبي الغربي، والبرج الجنوبي الشرقي، والذي يعرف باسم (حصن سان جورج)، وكان بينهما فتحات لوضع المدافع، حسب الأساليب المتبعة في القرن السادس عشر الميلادي، وقد أضاف فرسان القديس يوحنا، برجاً آخر بالقلعة، في الزاوية الشمالية الشرقية، يعرف باسم (برج سانتا باربرا)، وكان يبدو واضحاً من الخرائط التي تعود للقرن الـ 17، أن السراي كانت محاطة بقناة مائية من جميع الجهات، وكان مدخلها يقع عند الجدار الجنوبي.
وفي عام 1551 م، استولى الأتراك على القلعة، واتخذها ولاتهم مقراً لهم ولأسرهم، وعندما استقل أحمد باشا القرمانلي بحكم البلاد في سنة 1711 م، بذل هو وأسرته اهتماماً خاصاً بالحصون الدفاعية، وأصبحت القلعة تضم بناء خاصاً لحاكم طرابلس، به قاعة فسيحة، يستقبل فيها الوفود وقناصل الدول الأجنبية، وكانت بالقلعة أيضاً دار لصك العملة، وديوان القضاء، وصيدلية حكومية، وبعض المخازن والسجون والمطاحن.
وعندما استولت إيطاليا على طرابلس سنة 1911 م، اتخذت القلعة مقراً للحاكم العام، كما استعملت بعض أجزائها لجمع وتخزين الآثار المكتشفة، وفي عام 1919، تحولت القلعة إلى متحف للمرة الأولى في تاريخها، وتم افتتاحه رسمياً في عام 1930، على يد الحاكم الإيطالي العام بالبو، الذي سرعان ما بهرته القلعة، فنقل إليها مكتبه، ليتولى تصريف شؤون البلد من جزء صغير في القلعة.
كما قام الإيطاليون ببناء «المتحف الكلاسيكي»، ووضعوا بساحات القلعة نافورات، يرجع تاريخ نحتها إلى القرنين 16 و17 الميلاديين، وتم إحضارها من منازل روما القديمة.
وعندما سيطر البريطانيون على البلاد، بانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، سعوا عن طريق منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو)، إلى إنقاذ التحف الأثرية التي لا تقدر بثمن، وفي عام 1948، تحولت كل القلعة إلى مجمع المتحف الليبي، لتشمل متحف ما قبل التاريخ، ومتحف القبائل الليبية القديمة، ومتحف التراث الليبي في العصر البونيقي، العصر اليوناني، العصر الروماني، والعصر البيزنطي، ومتحف التاريخ الطبيعي، وبداية من عام 1952 م، قرر النظام الملكي، أن تكون القلعة مقراً لإدارة التراث والمتاحف، وفي عام 1982، تم إنشاء متحف السراي الحمراء، داخل سور قلعة طرابلس على مساحة 10,000 متر مربع، وهو عبارة عن مجمع متاحف مكون من 4 متاحف، هي متحف التراث الليبى، ومتحف القبائل الليبية القديمة، ومتحف ما قبل التاريخ، ومتحف التاريخ الطبيعي، الذي يعرض مجموعة مهمة من الحيوانات والطيور والنباتات المحنطة والصخور المتحجرة. وتعرض باقي المتاحف، تاريخ ليبيا وقبائلها وحضاراتهم، وحضارات الرومانيين والبيزنطيين والإغريق والفينيقيين، والحضارات العربية. وتم بناء المتحف تحت إشراف اليونيسكو.
مركز ثقافي
أما المدينة القديمة في طرابلس، والتي تطلّ على البحر الأبيض المتوسط، فتعتبر مركزاً ثقافياً وحضارياً، يروي تاريخ البلاد لمدة أكثر من ألف عام، ومركزاً تجارياً واقتصادياً، يحوي عدداً كبيراً من المباني الأثرية والتاريخية، والتي يعود تاريخ إنشاء بعضها، إلى ما يزيد على 500 عام. إلا أن النسبة الكبرى الموجودة حالياً من تلك المباني، تعود لفترة الاحتلالين العثماني والإيطالي.
وفي 2009، بدأت الدولة الليبية برنامجاً لترميم المباني التاريخية بالمدينة القديمة وتطويرها، واليوم، يمكن لزائر تلك المدينة أن يكتشف عالماً من الإبداع الفني، لا سيما من خلال الصناعات الحرفية العريقة، التي لا تزال تحافظ على وهجها، بالإضافة إلى إيقاع الحياة، الذي يحيله إلى قرون خلت، وإلى تنوع الثقافات والحضارات، الذي تجسد في الألوان والإيقاعات والموسيقى والأكلات والملابس والمعمار، وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية.
وحالياً، تستعد طرابلس لإحياء الذكرى السبعين لقيام الدولة الليبية الحديثة، والتي تصادف من 24 ديسمبر المقبل، فيما يطمح أهل المدينة إلى استتباب الأمن والاستقرار بصورة دائمة، حتى تبقى عروس البحر، كما هي دائماً، عنواناً للأمل والحب والجمال.