هو شارع الـ150 شجرة و68 عمود إنارة، والجداريّتيْن للشحرورة صباح وللنشيد الوطني، ومقاهي الرصيف والمكتبات التي تناقصت ثمّ فرغت.. الكلّ يجد فيه واحته، وهو الذي لم يملّ يوماً من احتضان التناقضات بصدره الواسع، ولو أنه لا يتخطّى مسافة الـ1300 متر.. «مسالِم» عادةً، ومفعمٌ بالحياة دوماً، مهما مرّت عليه الشدائد.. يكبو حيناً، ليعود ويشرق ببريق خاص أحياناً.

بالأمس البعيد، وبعدما كان مكاناً تسرح فيه «الواويّة»، ولا يكاد يتّسع للرجل الواحد ودابّته، أطلّ هذا الشارع على العاصمة بيروت، ليفاخر بكونه بات «شارع الألوان» والتناقضات المحبّبة والمتمرّدة في آن. يصحو على صوت فيروز مع رشفات القهوة، ويتمايل نهاراً على الألحان الشرقية والموسيقى الغربية، ويسهر ليلاً على آهات أم كلثوم وموسيقى «الهارد روك». وفي المقلب الآخر من الصورة، كنيسة تجاور مسجداً، ولافتة تقول: «خبز الفقير، وبيت المهاجر»، إلى جانب لافتة البلدية «ممنوع التزمير». أما هويّته، فتشير إلى أنه من أقدم شوارع بيروت التي لطالما برعت في إعادة صوْغ البدايات، والأكثر شبهاً بها، وشاهد على متغيّراتها كلها في الأزمان الغابرة.

وبالأمس القريب، وبعدما بدا كأنه يراكم الزمن في تكوينه، انسحب فجأة من ماضيه، وأفرغ تقريباً كلّ رصيده الماضي من ذاكرة وعتق، ومحا بقسوة موصوفة كلّ آثار الأقدام التي وطئت أرصفته، ونفض نفسه كسجّادة قديمة، ليتساقط عنه كلّ الغبار المتراكم الذي كان يحجب الألوان والأشكال الحقيقيّة لأمكنته، ومع ذلك استطاع أن يحافظ على فرادته، وعلى شبهه المخيف بنفسه: عناق الماضي ومغازلة الحاضر والتوْق إلى المستقبل. كان آخر شارع غير طائفي في عزّ المعارك، وعُرِف بـ«شانزليزيه بيروت»، وأُطلق عليه لقب روحها وقلبها النابض. وفي مطارحه، كتب محمد الماغوط ومحمود درويش: «بيروت قارّة» و«بيروت خيمتنا»، وخرج عاصي الرحباني من مسرح «قصر البيكاديللي» بقبّعته السوداء ليلاحق الأغاني والغابات واللفتات، فيما أسرعت فيروز خطاها على السجّاد الأحمر صوْب «المدى الأبعد».

أيام بائسة

 

أمّا اليوم، فيعيش هذا الشارع أيّاماً بائسة لا عهد له فيها، إذْ تقطّعت به السبل، وغدا مغلقاً على أهله وروّاده وشهوده، وأصبح «رماديّاً»: ازدحام ولا زحمة، ضوضاء ولا ضجّة، صمتٌ ولا سكون، هدوء ولا راحة، ازدواجيّة متناقضات اجتماعيّة وشخصيّة، عشّشت كسابقاتها في السياسة والحياة العامّة، وجوه مؤنسة غائبة وحاضرة، وزمن تناثر كالحروف الذهبيّة عند مدخل أحد الأبنية المقفلة.. وفي زواياه، يرابط المتسوّلون بإصرار عجيب، ينتظرون قوتاً يهبط كالدعاء.. أبواب كثيرة موصدة، وأرصفة لم تغادر مكانها، تروي زمن الحرب والسلم، الماضي والحاضر، الذاكرة والنسيان. أمّا دروبه، فكانت، ولا تزال، تقود إلى البحر.

وما بين مضامين هذه المشاهد، هويّة شارع عصيّ على التعريف، وقصّة طويلة كحكاية هذا البلد الذي بات معلّقاً كإطار بلا صورة أو ملامح. شارع بكلّ الألوان ولها كلّها، أسهم في تغيير صفة الشارع اللبناني من ممرّ للعابرين إلى زوايا لكلّ ما يخطر على البال. يترك لدى روّاده ذكرى تسكنهم، فيعودون إليه مهما تغيّرت أحواله وتبدّلت، جامعاً للمتناقضات، بمقاهيه المتّكئة على ضفّتيْه ومطاعم الوجبات السريعة المتناثرة فيه، ملجأ للجيل الجديد من الروائيّين والشعراء، منبراً للصحافيّين والمعارضين، ومرتعاً لهواة الليل وعبثه. هو مقصد لكلّ هؤلاء، وإن تدخلت عوامل كثيرة في إعادة تكوين أمكنته. أمّا واقعه، فأقرب إلى الحيرة منه إلى اليقين. والحيرة فيه حيرتان: الأولى في طموحه إلى أكثر من «شوارعيّة»، والثانية في طبيعة مرتاديه، الذين يتفاوتون بين مدنيّين إلى حدّ الريفيّة، وريفيّين إلى حدّ المدنيّة.

نموذج أوروبي

 

وما بين «الحيرتيْن»، كان هذا الشارع قبل أكثر من 600 عام عبارة عن خندق تراب ضيّق تقطنه «الواويّة»، إلى أن خطّ الزمن معالمه الحاضرة. ومن حينه، وهو يحاول أن يحسم هويّته، في زمن تقلّب الهويّات والتحوّلات المتواصلة. تارةً، يحاول أن يقدّم نموذجاً أوروبياً في التزاوج بين النظام والحرية، وطوراً يجنح، بفوضويّة يصعب لجْمها، إلى نموذج أمريكي جنوبي، تتداخل فيه المدينة مع الفوضى المافيويّة المتسرّبة من الأطراف. أمّا في المقلب الآخر من الصورة، فمحازبون متجمّعون في زاوية هنا أو هناك، وشعارات حزبيّة على لافتات عملاقة تقطع الشارع، بألوان مختلفة، فيها رسائل سياسيّة متنوّعة ومتناقضة، فضلاً، بالطبع، عن الرسائل الدينيّة والمعايدات، بولادة إمام هنا، أو آخر هناك، فيما الشارع يفسح المجال للبشر العاديّين ليحتلّوا المشهد، بكلّ هفواتهم وأخطائهم وإشكالاتهم، وحتى مراهقتهم. وذلك، وسط كامل إكسسوارات هذا الشارع، والتي تبدأ بالموضة والأزياء الحديثة والغريبة، والسيارات الفارهة، والموسيقى الصاخبة، واللكنات الأجنبية، ولا تنتهي بالكثير من الفرح المرفق بالحكايات.. فرحٌ لم يعد يمرّ حالياً من دون أسى وحنين في حسابات من عشقه دوماً، وكانت له فوق بعض أطلاله ذكريات: «طاولتي كانت هناك»!