في الكتابة لا يمكن إلغاء الزمن بأي حال من الأحوال، كما لا يمكن تجاوز الخبرة الحياتية المتراكمة، التي كونت عبر الزمن خزيناً جيداً يتكئ عليه الكاتب، ما يجعله حقيقياً حين يكتب، كيف يكون الكاتب حقيقياً؟ حين يعيش ليكتب، وليس العكس، كما يقول ماريو بارغاس يوسا الروائي البيروفي العظيم، الذي وضع مؤلفاً صغير الحجم بعنوان (رسائل إلى روائي شاب)، بترجمة صالح علماني، وهو كتاب صيغ على شكل رسائل جوابية يرد فيها يوسا على رسائل روائي شاب، طلب نصيحته كي يصبح روائياً ذا شأن، وقد أخذ يوسا طلب الشاب على محمل الجد، وقاده عبر كتابه في عالم محفوف بالإبداع والاستبصار والحدس العالي جداً (حتى وإن لم تكن هناك رسائل أصلاً)!
إن يوسا كونه كاتباً كبيراً يجد أن واحداً من أدواره في الحياة هو أن يأخذ بيد الروائيين الشباب، ليطلعهم على عوالمه وخبراته من أجل أن ينير لهم طريق الكتابة، وهو يجيب عن السؤال الكبير والصعب الذي وجهه له شاب في بداية حياته كونه روائياً (كيف أصبح كاتباً؟) يلجأ لتوضيح مقاصده وآرائه، إلى مجموعة من الكنايات الغريبة، لكنها كنايات دقيقة تذهب بنا للهدف بشكل مباشر وصادم أيضاً؟
هل تعرف ماذا يعني أن تكون كاتباً؟ يقول يوسا لذلك الشاب: أن تكون كاتباً يعني أن تعيش وفي أمعائك تسكن دودة تتغذى عليك، على ما تأكل، لا تجعل لك حظاً من الراحة وهدوء البال، يريد بذلك أن يجعله مستعداً للنفق الذي سيعبره، يريد أن يقول له، إن الكتابة ليست نزهة أبداً، وأن تكون كاتباً أو روائياً ليس بالأمر المسلي كما تظن!
على الكاتب والروائي ابتداء أن يؤمن بمقولة يوسا (الكاتب الحقيقي هو الذي يعيش ليكتب وليس العكس)، فالميل للكتابة ليس تزجية للوقت، وليس رياضة، ولا لعبة راقية تمارس في أوقات الفراغ، إنه انكباب حصري له وإقصائي لما عداه. وشأن الكتابة له أولوية لا يمكن أن يقدم عليه أي شيء آخر، وعبودية مختارة بحرية، تجعل من ضحاياها المحظوظين عبيداً.
ليس هناك وصفة سحرية لإنتاج الرواية أو الكتابة عموماً، فحتى يوسا، الذي كتب واحداً من أفضل الكتب التي يمكن اعتبارها مرجعاً أو قاموساً حقيقياً لكل شاب ينوي دخول هذا العالم، لم يستطع أن يمنح الشاب، الذي طلب نصيحته سوى العديد من المفاتيح الضرورية والهامة، لكنه لم يفتح له أي باب، ترك له حق اختيار الباب، قائلاً له في نهاية الرسائل: (والآن انس كل شيء وقم لكتابة روايتك الخاصة)!
وفعلاً، أنت لا يمكنك أن تتعلم الكتابة من قاموس مخصص، ولا من محاضرة ولا من كتاب عنوانه: كيف تتعلم الكتابة في سبعة أيام؟ عليك أن تعيش كثيراً وعميقاً، بالطول وبالعرض، في كل الأزمنة وفي زمنك تحديداً، في كل الحضارات، وفي عمق ذاتك وحضارتك وهويتك وبلدتك لكي تكتب كتابتك الخاصة لا كتابة أحد آخر أو يكتبها لك شخص آخر!