يُكمل كتاب «كان هذا سهواً»، للأديب الراحل أنسي الحاج، معمار أهزوجة انعتاق طالما ابتغاه. فيصوغ بذا، شجو الحركة اللحنية التأملية الأخيرة للشاعر نافحاً نشيده العتيق في مسرح الحياة، غنائيات خزنتها سطور ذاته المدبوجة في قميص سرديات نصية وشعرية سكبها وهو في أيامه الأخيرة لمّا استشعر دنو الأجل.. كما إن بعضها يعود إلى فترة سبقت ذاك الأوان بقليل.

خطرات أنسي الحاج في جديده لا تتخلف عن سيرورة ما أدمنه وارتآه، فهي طافحة روحاً شاعرية طالما تمردت على ظلمات لم تنتهِ أو تخبُ منذ قديم الأزل، ينفض أنسي في سكباته غبار الوقت ويتخطى تهويمات الليالي وتخاريف الملل والقلق والتعب والخوف والانتظار في حياة البشر..

وكأنه في ديباجاته المكثفة المنثورة في أجساد أدبية قُدّت من أنوار الذات، يخاطبنا الآن من حيث هو في العالم الآخر قائلاً: «ها أنا ذا اقرؤوني مجدداً..

فما بلغته من معرفة كنت قد قبضت عليه خلال عهد الشباب، فتصالحت مع الحياة وهزمت الموت قبل أن يغدر بي. إذ أحقت بسر الرضا وعلمت أي الربى نستطيع التنعم فيها لمّا نرحب بالحب ونطرد اليباب من حيواتنا».

يتحدى الشاعر لجاج البحار في كتابه الجديد، حتى وهو غائب، فيبحر على مركب تخميناته ويقينياته المؤطرة بصورٍ تستجلي الخفايا.. وهكذا يستحضر التاريخ وقصص الإنسانية فيشفي غليل الأسئلة الوجودية بحمولات أجوبة دسمة مشحونة عاطفة وغزارة ملومات. ولكنها أيضاً تزيد من تيهنا وتعمّق ضياعنا فتعود بنا إلى ألعوبة الحياة بوصفها تسكيناً وغفلة بينما نحن في طريقنا إلى الموت. ثم ينقلنا إلى استكناه حي لكيفية قران الحرية والإيمان.

ولا يكف أنسي الحاج في متتاليات قلمه ضمن الكتاب، ورغم هذه الاستراحة التأملية، عن شأوه وديدينه في شحذ همتنا وإيقاد نار فطنتنا وطرد غفلتنا، فيدعونا إلى ممارسة مغايرة: «احفر في الهاجس. تابع الحفر حتى ينبجس اللب من الطرف الآخر فإما جوهرة وإما فراغ الفراغ». ونشرع، بدءاً من باب «ذات»، في الارتحال إلى مروج القص وهو يتلحف ثوباً شاعرياً تأملياً.

وإثرها، يفتح شاعرنا الراحل آفاق صفحات جديدة مغايرة، ابتداء بـ«باب»، فيأخذنا إلى شجو عالمه وذاتيته المحضة ورؤاه. وهناك نتبين أنه «ليس بمثل زخم البدايات غير زخم النهايات».. وأن «من يعد خطاه لا يعود يمشي».

وما أجمل تلك الشذرات التي تطالعنا بقصص حكمية ذرتها مرة ريح الزمن.. إذ يعود الحاج ليكسوها من روحه وذهنه. ومن بينها: «لعنة المال الحرام لا تصيب صاحبه، بل أقاربه».

ويتحول أنسي إلى ثراءات جديدة تربض دلالات عتيقة في قلب روايات وأعمال خالدة.. ويقرنها بإسقاطات واقعية عصرية.. ثم يحتفي معها بالبطولة والنبالة، ويؤنب الحاقدين. وكذا فإنه يشجب فساد الذائقة الأدبية وتفشي النزعة الأدبية التجارية، في وقتنا الراهن. ولا بد من الحب في النهايات.. كما البدايات وما أعقبها، فهو إكسير يصهر فوارق تمايز الرجل والمرأة.. كما أن «خلاصة الحياة هي الخلق. خلاصة الخلق هي الحب. خلاصة الحب هي الفناء...».

أيقن شاعرنا أنه مشرف على زيارة الغياب.. وها هو يتعلق في نثاره الذي ضُمّن في هذا الكتاب، بالغيوم. إذ يبثها همه وهاجسه الذي رافقه باكراً.. يقص عليها محطات أسفاره ومعاناته ومكابداته. ومن ثم تيهه فجهله عقب شربة نالها من نبع المعرفة.

وهكذا يناشدها: «علميني فرح الزوال.. غيوم يا غيوم رسمت فوق الفراغ قوس غمامي، قوس غمامنا أيها الحب.. قوس غمام المعجزة اليومية.. باركيني. علميني فرح الزوال».