تضع تهامة الجندي كتابها «صورنا الماكرة» بين يدي القارئ دون أن تخبره شيئاً عن سيرتها الذاتية، فهي كما تُعرّف نفسها في كتابها: «حياتي الفقيرة، المسروقة، المحروقة، المهتوكة، مثل حيوات أغلب السوريين، لم تكن استعادتها سهلة عليّ». والاستعادة هنا بمعنى نكأ الجراح (وما أكثرها) في كتب السيرة الذاتية، حيث يصنف كتابها الصادر أخيراً، عن شركة رياض الريس للكتب والنشر، وكما عرفنا دائماً تقدم هذه الدار للقارئ الكتب الجيدة التي تحمي نفسها بسمعة مؤسسها الصحافي الكبير رياض الريس، حيث تجد الكتب طريقها لقارئ نوعي باحث عن الجديد والمفيد.

عرفنا تهامة الجندي على صفحات الثقافة في أكثر من منبر وأعجبنا بحساسية التقاطها للمهمل والمتروك في حياتنا، فاختارت أن تقف على الضفة الأخرى في النهر السوري الفائض بأقلام هتافات (بالروح بالدم). وكان لتلك الضفة ثمنها من إغلاق بوابات العمل أو رفع أسوار الحدائق، فلا أحد يتجول بحرية دون رضا وموافقة (الأخ الأكبر).

تقدم سيرتها للقارئ بجمل مثل: «تعودت أن أطمسها لأحمي نفسي، وكان عليّ أن أرتق ثقوب ذاكرتي، وأرمم مناطقها التالفة، أدخل دهاليزي ببطء، وأنكأ جراحي جرحاً بعد جرح، أنبش أسراري، وأبكي وأنا أحرّرها وأبصر على الأوراق خيبتي». وعبر بوح حار عالي الشجن، تضع القارئ في خانة الاصطفاف معها في وجه الفساد الذي ينهش جسد بلد جميل، بلد أجهزت الحرب على بقاياه أو على آخر قطرات خيره.

سيرتها تشبه سيرة آلاف من المثقفين السوريين ومن يماثلهم في إنتاج المعرفة، لكنها سيرة مليئة بالحسرات، ربما لأن الإرث العائلي يلعب دوراً سلبياً، تطبيقاً للمثل الشعبي «الآباء يأكلون والأبناء يضرسون»، حيث على الكاتبة أن تدفع ثمن مواقف عائلتها الأب والأعمام وغيرهم ممن يتواشجون معهم بصلة الدم والنسب. وهو ما يشبه كثيراً قصص جمهوريات الموز في أميركا اللاتينية مع فارق أن سوريا لا تنتج هذه الثمرة ولكنها تنتج الظلم بما يفوق ما كتبه ماريو بارغاس يوسا في روايته الشهيرة «حفلة التيس».

كتاب آسر بجمله ورشاقة تعابيره وطرق تركيب جمله الفنية يحمل القارئ إلى عيش الواقع دون مسه بفجاجة البيانات السياسية، إنه حكاية امرأة اختارت الوقوف على ضفة الشرفاء فدفعت الثمن، لكنها تبدو سعيدة بما دفعته، والدليل هو صورها الماكرة التي تحولت إلى فيلم طويل فيه خمسون عاماً من تاريخ سوريا.