الحب حكاية أزلية، وقف منها البشر مواقف أخلاقية مختلفة، حاربوها، صنفوها، قدسوها، صلبوها، حاكموها، لكن البشر على اختلاف طبائعهم رأوا في الحب شيئاً خاصاً لم يقدروا عليه، فاستمر قيمة إنسانية يمشي من زمن إلى زمن ومن جبل إلى نهر إلى بحر كالماء والهواء لا شيء يوقفه.
قلائل من فهموا الحب قيمة مطلقة وتأملوا طبيعته، ومنذ أقدم العصور عملوا على فرزه وتصنيفه وأنسنته ليكون بين البشر ومروا بحقول الحق والخير والجمال، من دون إغفال الحب العادي المتعارف عليه بين الناس، وهو ما ظل باقياً عندما خلده الشعراء والرسامون والمغنون فأعطوه معنى واحداً حتى كادت تختفي معانيه الأخرى.
وعبر الدهر لم يحظَ موضوع بالاهتمام الفني مثلما فعل الشعراء، فكل شعر الحماسة والمديح والوصف والكرم والشجاعة، يظل ناقصاً إذا لم يبرق فيه ثغر عبلة المتبسمِ، وعرفت أشعار العرب نبعاً من الحب لم يوقفه جفاف أو ضيق عيش أو وحشة طريق وقفر مكان، الحب خبزهم وقصائد العشق شرابهم.
في كتابه (في الحب والحب العذري) لمؤلفه الدكتور صادق جلال العظم يقول: (إن من عرف الحب بالتجربة والمعاناة فهو بغنى عن كل التعريفات الفلسفية والتحديدات النظرية لماهيته مهما دقتْ في عبارتها واتسعت في شموليتها، كما من حُرم من هذه النعمة بما فيها من مرارة وخيبة، لن تجديه النظريات المجردة نفعاً، ولن تزيده الشروح الفلسفية علماً بطبيعة الحب).
وهو ما يلخص أن كل تجربة فردية لا تشبه غيرها، كما بصمات الأصابع، لا أحد تتقاطع تجربته مع غيره، وكلما كانت تجربة بسيطة كانت أكثر جمالاً، حالها حال الأعرابي الذي جاء مجلس شعراء ولم يكن شاعراً أو صاحب علم، فقالوا له حدثنا عن فتاتك يا رجل، فأطرق قبل أن يجيب مقتضباً: «والله إني أرى الشمس على دارها أحلى منها على دار غيرها». لقد تفوقت بساطة كلماته على قوة أشعارهم، لأنها كانت نابعة من قلب محب موله.
الحب حكاية صامتة في قلوب المحبين فإن أفصحوا ذهبت كلماتهم دهراً، فهل أجمل من بيت عمر بن أبي ربيعة:
إِذا جِئتَ فَامنَح طَرفَ عَينَيكَ غَيرَنا
لِكَي يَحسِبوا أَنَّ الهَوى حَيثُ تَنظُرُ
وهل أبلغ من بدوي الجبل حين قال:
يا من سقانا كؤوس الهجر مترعة
بكى بساط الهوى لما طويناه
الحب حكاية شخصية يعرفها من لامس وتر الشوق قلبه.