تركت الحرب آثارها السلبية على خشبة المسرح السوري، اضطرت معها إلى خفت أو حتى إطفاء أنوارها خلال السنوات الأربع الأولى للأزمة، في ظل العبث والتدمير المجاني الذي طال معظم المناطق، خاصة العاصمة دمشق ومحيطها. وشهد العام 2013، وما تلاه، ما يشبه الانتفاضة الخجولة للمسرحيين السوريين، فقدمت العديد من التجارب التي شكلت صرخة في وجه ما يحدث، لكن اللافت اعتماد معظم هذه الأعمال على نصوص مترجمة، مع محاولة إسقاطها على الواقع، وهو ما يثير تساؤلاً مشروعاً؛ أين النصوص المحلية التي يفترض أن ينتجها واقع مرير لم يسبق للبلاد أن مرت به؟ وهي التي أنجبت أبا خليل القباني مؤسس المسرح العربي، وسعد الله ونوس، ومحمد الماغوط، وممدوح عدوان، وآخرين.
استعراض الأعمال
وفي استعراض لبعض الأعمال المقدمة، جاء عرض «اختطاف» لأيمن زيدان عن مسرحية «الأبواق والتوت البري» للكاتب الإيطالي داريو فو، كما عاد زيدان لتقديم «دائرة الطباشير» متكئاً على نص الألماني الشهير برتولد بريخت الذي يعود إلى أربعينيات القرن الماضي.
«هوب هوب» كان عنواناً لمسرحية أخرجها الدكتور عجاج سليم واقتبسها الكاتب السوري جوان جان، مستفيداً من نص «الجزيرة القرمزية» للروسي ميخائيل بولغاكوف، في محاولة لمقاربة الكارثة التي ألمت بالبلاد. وفي «ليبيدو» زاوج عبد المنعم عمايري بين نصوص عالمية لشكسبير وتينيسي وليامز وحكايات شخصية للممثلين، فيما قدم بسام كوسا «الكوميديا السوداء» عن نص للإنجليزي بيتر شافر، كما أعاد التجربة في «تكرار» عن «المتحذلقات السخيفات» لموليير، فيما عاد المخرج هشام كفارنة من جديد لتقديم «الأشجار تموت واقفة»، متكئاً في عرضه إلى نص الإسباني «اليخاندرو كاسونا»الذي كتبه في أربعينيات القرن الماضي.
مدن مستقرة
المخرج عجاج سليم، رد على هذا التساؤل قائلاً: المسرح السوري خلال سنوات الحرب لم يتوقف عن تقديم العروض المسرحية بشكل عام في المدن الرئيسية، دمشق، اللاذقية، الحسكة، وهي المدن التي كانت أكثر استقراراً مقارنة نوعاً ما بمدن غيرها. ولكن لماذا لم يتم ترجمة ما حدث بنصوص مسرحية؟ الإجابة بسيطة، وهي أن المسرح له خطابه الخاص وبنيته اللغوية الخاصة، لا يترجم كما الخطاب الإعلامي ما يحدث على الأرض مباشرة ويعيد صياغة البيان، فالمبدع المسرحي يحتاج إلى زمن لاستيعاب ما حدث، واستيعاب التداعيات، باعتباره كائناً مرهف الحس فهو ينتظر على الأقل هذا التفاعل الذي يحدث داخله، وأحياناً هول الأزمة والرضة النفسية التي تسببها الحرب يمكن أن توقف السيالة الإبداعية له.
استغلال الأزمة
وتابع سليم: قدمت خلال السنوات العشر الماضية عدة مسرحيات، لكن البعض استغل الأزمة وتاجر فيها فقدم شعارات وبيانات لهدف تجاري وأسماء معروفة... لكن كان هناك أيضاً محاولات خجولة على مستوى المسارح، وتحديداً المسرح القومي الذي كان (أكثر انضباطاً) إن صح التعبير، لكن في الوقت نفسه كان الجانب العاطفي هو الطاغي على الخطاب النهائي.
أضاف سليم: مع خمود الحرارة الحربية اليوم، ومع التأثيرات الاقتصادية والضغط الاقتصادي الذي يحاصر البلد، أعتقد أن المسرحيين في بلد كان فيه، سعد الله ونوس، ومحمد الماغوط، وممدوح عدوان سيقدمون تجاربهم وبياناتهم. فخلال الأزمة ليس النص فقط هو ما حمل المسرح السوري. فالعرض السوري الذي قدم خلال عشر سنوات قدم شيئاً خاصاً، فقد حمل لغة بصرية، ولغة سمعية، موسيقى، مؤثرات، وكانت الصور تنعكس، سواء بشكل المسرح الحديث وتداخل الفيديو مع العرض مع الغناء وهو ما لم يقدم سابقاً.
المعادلة الجوهرية
الكاتب والمخرج المسرحي سامر محمد إسماعيل قال: لا يمكن الحديث عن مسرح سوري إلا بوجود نص مسرحي سوري، وهذا ما لا يقتنع به العديد من المسرحيين السوريين الذين واظبوا على استيراد نصوص أجنبية مترجمة لتحقيقها على الخشبة. لستُ ضد اقتباس وإعداد نصوص عربية أو أجنبية، لكن المصيبة أن من يعمل على تلك النصوص يقدمها دون معالجة فنية، ودون أن يخلق سياقات سياسية واجتماعية وثقافية لها علاقة بالراهن، متجاهلاً عن علم أو بدونه أن معادلة المسرح الجوهرية هي (الآن وهنا، نحن والآخر) وهذه المعادلة إذا لم يتم تحقيقها تبقى العروض المسرحية السورية المشغولة عن نصوص أجنبية بعيدة كل البعد عن الجمهور. الجمهور ككائن تاريخي وجغرافي لا يمكن أن ينجذب نحو نصوص كتبت قبل مئة عام أو أربعمائة عام. وتصبح مثل هذه العروض عبارة عن استظهار متفاصح لخطب يرددها ممثلون على الخشبة.
وأضاف إسماعيل: عقدة النقص الفادحة هي عدم الإيمان لدى الكثير من المسرحيين السوريين بالنص المحلي، وتعويلهم على شهرة نصوص أجنبية بعينها، ظناً منهم أنهم يضمنون نجاح عروضهم المستوردة. هذا الشرخ بين النص والعرض يتفاقم اليوم في ظل انكباب على نصوص تم تقديمها عشرات المرات على المسارح السورية، ودون أدنى دراية بأهمية راهنية وطزاجة الخطاب المسرحي الذي يصوغونه، مما ساهم في (تطفيش) شرائح واسعة من الجمهور السوري من هذا المسرح الجاد المتجهم العابس، ذلك المسرح المتفاصح المتعالي على الناس وعلى هواجسهم وهمومهم.
انكفاء جماهيري
وتابع: الكارثة الكبرى أن النصوص الأجنبية تقدم في بلدانها الأصلية كمسرح متحفي، لكن بلغتها الأصلية، لا بالعربية الفصحى المترجمة بشكل سيئ ومبتسر ومنقطع عن سياقها المكاني والزماني، فكيف يمكن اليوم أن تقدم نصوص وليم شكسبير المكتوبة في العصر الإليزابيثي البريطاني لجمهور دمشق أو حلب 2021؟ هذه مفارقة جعلت الجمهور يمل وينكفئ عن شباك التذاكر، لا سيما مع انطباع صار سائداً اليوم بأن عروض المسرح القومي هي العروض التي يلبس فيها الممثلون الأسود ويتخاطبون بالفصحى المبرجزة؟
ظاهرة الاقتباس
الكاتب المسرحي جوان جان اعتبر النصوص الأجنبية وظاهرة الاقتباس من نصوص عالمية، التي تكتفي أحياناً بتعريب الأسماء فقط متجاهلة العادات والتقاليد والبيئة الاجتماعية، قد شكلت تباعداً بين هذه الأعمال والجمهور.
وقال: إن معظم العروض التي قدمت خلال السنوات العشر الماضية عالجت المواضيع المختلفة بأسلوب بعيد عن المباشَرة وأقرب ما يكون إلى الترميز.. ومن اللافت للنظر أن هذه السنوات الحافلة أفرزت عدداً من الأقلام المسرحية، لكن معظمها أحجم عن متابعة الكتابة للمسرح لأن المسرح لم يكن بالنسبة لهم قضية تحتاج إلى بذل المزيد من الجهد والوقت، بل مجرد محطة عابرة سرعان ما انتقلوا بعدها إلى محطات أخرى من العمل الفني.
وتابع: بنظرة أكثر شمولية باتجاه حركة الكتابة المسرحية في سوريا في السنوات التي تلت مرحلة سيطرة كتابات رموز الكتابة المسرحية السورية نلاحظ تراجعاً محدوداً على صعيد نوعية الكتابة ومستواها، في الوقت الذي أثبتت فيه مجموعة لا بأس بها من كتّاب المسرح عندنا علوّ كعبهم في هذا المجال وقدرتهم على أن يسدّوا جزءاً من فراغ تركه الجيل السابق.
وختم بالقول: لا بد من أن نذكر هنا أن الهيئة العامة السورية للكتاب ساهمت بشكل إيجابيّ في تنشيط حركة الكتابة المسرحية من خلال نشرها الدائم للنصوص المسرحية السورية ذات المستوى الجيد، كما أن مديرية المسارح والموسيقا ومن خلال مشروع دعم مسرح الشباب الذي انطلق في العام 2017 والذي قدم أعمالاً كتبها كتّاب مسرحيون سوريون ينتمون لأجيال مسرحية متعددة.