متخصصون لـ «البيان»: دعم الفن الراقي ومبدعيه خير سلاح في مواجهة الظاهرة

الغناء الهابط ..«فنون ممسوخة» تشرخ صفاء موسيقانا وكلماتنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

يواجه عالمنا العربي بين الفينة والأخرى، ظواهر فنية متنوعة موسيقية غنائية، إذ تحولت الساحة في بعض الأماكن من حضن لفن يسهم في بناء الأمم إلى «مرتع» يفسد عقول أفراد الأسر والمجتمع، ويدمر تفكير الأطفال والشباب. ويتبدى في الخصوص التخريب الذي يفرزه التحول اللاواعي في مسارات الأغنية العربية سواء في اللحن أو الكلمات والمعاني.

والخطير في الصدد، أنه باتت بعض الأغاني «الهابطة» تنتشر كما النار في الهشيم، و تثير العديد من التساؤلات والقضايا في الشارع العربي، وتترك آثاراً سلبية مقلقة على فكر مجتمعنا وأصالة فنوننا.

 

نقاد ومتخصصون كثر، لا تنفك أصواتهم تعلو بين الحين والآخر، محذرة من هذه الظواهر ودورها في تردي الثقافة والفن بشكل عام، لا سيما مع ظهور العديد من «الفنانين والفنانات» الذين لا يرتبطون برسالة فنية معينة ويهدفون فقط إلى الظهور الإعلامي والتربح المادي غير مكترثين ولامبالين بتأثير وقيمة ما يقدمونه فنياً ومجتمعياً، وما يتلفظون به من ألفاظ تنافي العادات والأخلاق العامة، ويصف البعض هذا النوع بـ«الغناء الهابط»، الذي لا يخلو من سيل الكلمات الجارحة والشتائم البذيئة، ويصفون رواده بـ«الأشباح» التي تدمر أفكار وعقول الشباب.

ويغزو هذا النوع من الغناء البيوت والمقاهي والسيارات والمناسبات الاجتماعية المختلفة، حيث ترى الكثير من شبابنا يردد كلمات أغانٍ دون أن يكترث لمعانيها ومضامينها، لما لاقته تلك الأغاني من صدى وانتشار، إلا أن بعض المؤسسات المعنية في البلدان العربية، حاربته بشتى الوسائل والسبل، حيث تم إيقاف حفلات لمغنين، وذلك في محاولة لكبح جماح هذه الظاهرة والحد من انتشارها، وتوعية الشباب والمجتمع من خطرها، لكن يبقى السؤال الأهم، إلى أين سنصل في الغناء العربي مستقبلاً لا سيما في ظل ما نشهده من تحولات سريعة في عالم الفن فضلاً عن أن الغناء بات مهنة من لا مهنة له؟!

«البيان» تضيء هذه القضية عبر تحقيق شامل يناقش حيثياتها وتأثيراتها على العالم العربي ويقدم توصيات لمعالجتها حيث أكد عدد من المتخصصين ضرورة درء خطر هذا النوع من الغناء على المجتمع والشباب، موضحين أنه يجب التسلح بمزيد من الوعي الفني والاهتمام أكثر بالموسيقى والفن الراقي، لكبح جماح ظاهرة الغناء الهابط، وتأثيراتها مشددين على أن دعم الفن الراقي ومبدعيه خير سلاح في مواجهة هذه الظاهرة.

 

قيم سامية

وفي السياق، يقول الفنان الإماراتي طارق المنهالي: إن المجتمع الذي يمتلك فنوناً راقية تسمو بالمشاعر الإنسانية وتسهم في إنارة العقول وتشكيل الوعي، هو مجتمع تحكمه قيم سامية.

وحسب رأي المنهالي فإن بعض الشرائح الموسيقية في عالمنا العربي تبحث دائماً عن الألفاظ الغريبة والتشويه والانحطاط في الكلمة والأداء، غير مبالية بأننا أمة تفتخر بمعاني اللغة وجمالية مفرداتها، متناسية أن ما يلحنه ويغنيه المطرب إرث ثقافي مرتبط ببيئته ومجتمعه.

ويتابع المنهالي قائلاً: علينا توعية الشباب وتحذيرهم من هذا النوع من الغناء، ومحاربة ما يسمى «الغناء الهابط» بكل الوسائل المتاحة فلنا ماضٍ فني عربي عريق وفنون قيّمة وأصيلة يحق لنا الافتخار بها ويحق لها الخلود الأبدي.

ويبين المنهالي أن للفن الأصيل المرتبط بالأخلاق والثقافة والأدب والعراقة حضوراً وطابعاً خاصاً وتجد الصغار والكبار يتغنون به فبعض الأعمال التي تجاوز عمرها الـ 70 عاماً وأكثر لا تزال كلماتها حاضرة في الأذهان، أما الأغاني ذات المحتوى الهابط فنجد أنها سرعان ما تذوب وتصبح طي النسيان دون أن يتذكرها أحد..

 

أسباب وأنواع

الناقد الفني السوري عامر عامر، يرى أن فن الأغنية، في نسبته الغالبة، اتجه إلى مطرح ومرحلة الهبوط، في العالم العربي لعدة أسباب، من بينها الاستهلاك العشوائي الذي عززته وسائل التواصل الاجتماعي والتي جعلت من الجمهور ذا صبغة واحدة فالكبير والصغير في السن متساوون والعارف وغير العارف كذلك الأمر، ومع الانتشار الكبير لهذه الوسائل وقعنا في الفخ إذ لا يمكن التحكم بمسألة انتشار أي شيء هابط في القيمة سواء أغنية أو مقطع تمثيلي هزلي أو أي شيء آخر، ويمكن إسباغ هذا الحال على كل أنواع الفنون الأخرى.

وتابع عامر: إن إعطاء الغناء الهابط رؤية واحدة لدى كل مناطق العالم العربي قد يكون عادلاً بمكان فمثلاً الأغنية في لبنان لم تتراجع كثيراً لأنها بالأساس مرتبطة بطابع قصير من حيث الكلام واللحن وهو ما ينسجم مع اللغة المعاصرة في السرعة والتلقي عالمياً، بينما في مصر قد نجد للأمر حسابات أخرى فهناك كانت الساحة الأبرز عربياً للأغنية الطويلة واللحن الجاد، لكن مع مرور الوقت لم يعد لها مكان إلا ما ندر (من حيث الإنتاج الجديد)، بينما في منطقة الخليج العربي عموماً كان الالتزام بالشعر والاهتمام بالقصيدة سبب ولادة أغنية منسجمة مع واقع الحال ولا تنافي تاريخ الأغنية الخليجية السابق... إذاً في كل مكان ميزات وحسابات تختلف عن بعضها البعض... لن نغفل فكرة خدمة الإعلام بفضائياته التلفزيونية في تكريس الأغنية الهابطة، فمع وجود منتج قليل الثقافة الفنية قد يكرس مزاجه الخاص في صوت مطربة أو نموذج أغنية ويمنحها حضورها عبر ساعات بث متكررة وطويلة مما يجعل من اعتياد الأذن عليها كأنها نموذج حقيقي ويقتدى به.

وأضاف: الآثار تبدو أسوأ عندما نرى تشبه أبناء الجيل الجديد بثقافات أخرى غريبة عن الثقافة العربية، وهنا لن يكون مكاناً لهذه الأجيال مستقبلاً لأنها قد تجد نفسها تائهة فلا هي مرتبطة بفن أجدادها الأصيل ولا هي عالمة بالفن الآخر الذي تتجه إليه فتعرف عنه القشور والأشياء البسيطة بالتالي النسب الأكبر منها تحتمل الضياع والهبوط.

وأكد عامر على ضرورة أن يكون هناك توعية تشترك فيها مبادرات وجهود جماعية، ولا أن تقتصر على تجارب فردية فقط، مشيراً إلى أن الاتجاه لتعزيز مكانة اللغة العربية الفصحى في مناهجنا خطوة أولى يمكن أن توقظ في اللاشعور الجمعي للشباب العربي حساً يجعله يرفض الهبوط وينبذه، منوهاً بضرورة تعزيز مكانة المسرح في مدارسنا وتجسيد المسرحيات ذات النصوص العربية الفصيحة ما سيساعد كثيراً في صقل وتهذيب الروح العربية وبالتالي التمييز بين الرخيص والثمين.

وأردف: في سوريا هناك محاولة جيدة من دار الأوبرا في إدراج الأغنية العربية الأصيلة ضمن قالب المعاصرة، وفي كل برامجها الشهرية تشجع الأسرة السورية على متابعة حفلاتها ونشاطاتها ولكن جمهور دار الأوبرا ليس بالجمهور الواسع وهو يشكل نسبة بسيطة جداً من عدد السكان في كل مدن ومحافظات سورية، لكنها تبقى محاولة مشكورة الجهود.

من باب آخر هناك المعهد العالي للموسيقى الذي يُعنى بتدريس الموسيقى والغناء أكاديمياً ويصقل الطلاب ويشجعهم على الالتزام باللحن الفني وموازنة الحالة بين الماضي والحاضر لرفد الأجيال بشباب واعي موسيقياً وفنياً.

ووجه عامر عدة نصائح يمكن توجيهها للشباب العربي بهذا الخصوص ومنها: أن يقدروا ساعة الدرس لمادة الموسيقى في المدرسة وأن يهتموا بها، وأن يتجهوا لتعلم الموسيقى لو عبر دورات خاصة وبعمر مبكر فهي من ينجينا من التورط بما أسميناه الغناء الهابط.

وختم: أنصح بضرورة التواصل بين الأجيال من حيث نتاجها الموسيقي ومعرفة رواد الموسيقى والفن الأصيل وشعراء الأغنية السابقين ومحاولة التنافس مع نتاجهم السابق وصولاً لمستوى جديد آخر.

 

تراجع وعزوف

من جانبه، قال الناقد الفني اللبناني جمال يوسف فياض: إن الفن والغناء الهابط موجود دائماً سواء في الوطن العربي أو في العالم ككل كوجود الراقي، لكن المشكلة أن الهابط أحياناً يطغى بسبب تراجع الراقي، ونحن حالياً نشهد تراجعاً قليلاً للفن والغناء الراقي وتقدماً أكثر للهابط منه، لأن الهابط يلقى من يروج له، خاصةً عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

وتابع: يعود سبب تراجع الفن والغناء الراقي إلى مجموعة من المؤسسات والحكومات المسؤولة، فبدلاً من دعم الفنون الراقية تم إهمالها بطريقة أو بأخرى، ناهيك عن حقوق الأداء الفني والثقافي المادية للفنانين الراقيين، حيث إنهم لا يحصلون عليها كما يجب مما أدى لعزوفهم عن إنتاج الأعمال الفنية الراقية، فسابقاً كان منتج أغاني أم كلثوم وعبدالحليم وعبدالوهاب وغيرهم يبيع أشرطة وأسطوانات للأغاني ويحصل لقاء ذلك على مردود مادي جيد، أما الآن فأي عمل فني يتم إنتاجه يمكن الحصول عليه مجاناً من خلال «يوتيوب أو فيسبوك» وما شابههما.

واستطرد: منذ القديم يوجد أغانٍ لا تتناسب مع المجتمع لكن عملية بث الأغاني كانت محصورة إما بالأسطوانات أو بالإذاعة، والإذاعات لا تذيع الأعمال الهابطة، فإما أن تصل عن طريق أسطوانة أو عن طريق المطاعم وهذا وصول محدود، أما اليوم فهي تبث عبر المئات من قنوات التواصل الاجتماعي، وبالنسبة لطرق التوعية تبدأ من المدرسة، فتعليم الطفل وتأديبه وجعل استماع الطفل للفن الراقي عادة هو الأساس، وإذا أهملنا ذلك سيعتاد الطفل على متابعة الأعمال العشوائية وهذا هو الخطأ الذي حصل حيث خففنا توعية الأطفال، لأن أطفال اليوم لم يعودوا يدرسوا موسيقى وفنون ورياضة، هم بالكاد يدرسون القراءة والكتابة وبعض المواد العلمية، حتى الشعر لم نعد نراه في مناهجنا بالشكل المطلوب، فجيلنا كان يعرف أكبر الشعراء من الجاهلية حتى اللحظة، أما جيل اليوم فلا يؤسس على ذوق رفيع من الأدب والشعر والموسيقى مما أنتج جيلاً جاهلاً فنياً، والتوعية تبدأ بالطبع من المدرسة.

وأكد أن معظم أجيال العالم العربي تم إهمال توعيتها فنياً، والنتيجة هي فوضى وتفوق الكلام المنحط سواء بالأغاني أوبالدراما، بينما الجيل السابق لديه حس وذوق فني عالٍ أكثر كما كان يستمتع بالفن أكثر.

وختم: الشباب العربي أدرى بحاله، أنا أوجه نصيحة للمسؤولين في العالم العربي وخصوصاً في المدارس ووزارات التربية والإعلام، بأن يرفعوا من شأن الفن الراقي، وأن يكثروا من حفلاته ودعم الفنانين المحترمين في كل المجالات.

 

علا الشافعي: توجيه الشباب للفن الجيد

أكدت الناقدة الفنية المصرية علا الشافعي أن لا أحد يستطيع أن ينكر أن أغاني المهرجانات قد حققت انتشاراً كبيراً على المستوى الكمي، وحظيت بمئات الملايين من المتابعات على قنوات اليوتيوب وصفحات السوشيال ميديا، رغم ذلك تبدو أعمالهم ذات الشعبية محلّ اختلاف من حيث التقييم الفني.

وقالت: الكثيرون يرونها تحمل الكثير من التجاوزات وتسيء للذوق العام وتحمل تهديداً للثقافة والكثير من الاتهامات التي تحمل جمل رنانة ذات وقع عميق على المستوي المحلي والعربي، رغم أن مصطلح الذوق العام «فضفاض».

وأضافت: بالطبع الفارق كبير بين الأغاني الشعبية وأغنيات المهرجانات ولكن من المهم استيعاب هذا اللون لأنه يعكس شيئاً ما في المجتمع، كالرغبة في التمرد، أو الرغبة في الصراخ، وليس علينا محاربته بمنعه ولكن بتقديم تجارب فنية جيدة يعتادها الشباب، وهذا أمر ضروري.

وأردفت: علينا قراءة ما يريده الشباب، خصوصاً أن 80 % من الذين يحركون الساحة الفنية تحت العشرين عاماً؛ لذلك علينا استيعابهم ومحاولة فهم الأنماط والألوان الغنائية التي يفضلونها، حتى لو كنا نراها غريبة وتحمل استفزازات وعلينا ألا نتجاهل أيضاً أن هناك مراحل عمرية يكون فيها الشباب أكثر تمرداً.. لذلك يصعب أن تقول لهم هذا ممنوع سيبحثون على ما يرغبون بعيداً عنك خصوصاً في ظل التطورات التكنولوجيا المرعبة.

وختمت: علينا توجيه أنظار الشباب للفن الجيد، وزيادة الجرعات الثقافية من خلال المنصات المختلفة. المفارقة أنه رغم التطور التكنولوجي الهائل توجد شاشات عربية تخلو بالكامل من البرامج الثقافية والفنية فكيف إذاً ستواجه مثل تلك الموجات؟ هل بالمنع ونهر الشباب عن سماعها؟! هذا أسلوب عفّى عليه الزمن.

 

توصيات

01 نشر الوعي بقيمة الفن العريق والأصيل

02 محاربة الغناء الهابط بكل الأساليب والطرق

03 مد الشباب بذخر ثقافي ذي قيمة عالية

04 الاهتمام أكثر بدروس الموسيقى

05 تعزيز مكانة اللغة العربية في المناهج الدراسية

Email