«32 سنة ما درَّستها».. بهذه العبارة أثار الأكاديمي السعودي الدكتور أحمد التيهاني، في أثناء لقاء جمعه بالإعلامي خالد مدخلي عبر برنامج «سؤال مباشر» على شاشة قناة «العربية»، جدلاً واسعاً في الساحة الثقافية خلال الأيام الماضية، معلناً عن موقف حاسم تجاه معلقة الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم التي مطلعها:

أَلا هُبّي بِصَحنِكِ فَاَصبَحينا      وَلا تُبقي خُمورَ الأَندَرينا

لينقسم الوسط الأدبي حيال هذا الرأي فريقين: فريق رافض مهاجم، وفريق رافض متفهم.

ولم تكن العبارة التي تفوَّه بها التيهاني هي السبب الوحيد وراء هذا الرفض العارم لفكرته المعلنة، بل كشف الدكتور عن جوانب أطروحة يتبناها، هي التي تختبئ وراء هذا القلق من تدريس تلك القصيدة وأمثالها من عيون الأدب العربي للنشء.

معاني الشعر المجردة

التيهاني ارتكز في تصوُّره المطروح على معاني الشعر المجردة، وذلك عندما صرَّح بأن مثل تلك النصوص تثير في النفوس النعرات والتعصب والقبلية، مؤكداً تعارض هذه المشاعر مع ما ينبغي الالتزام به من الانتماء والوطنية في ظل الدولة الحديثة، وذلك بعدما ردَّد بيت المعلَّقة الشهير:

أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا       فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا

ولم تُفلح مداخلة المحاور خالد مدخلي في ثنيه عن تسليط الضوء على المعنى المجرَّد للقصيدة بعيداً عن تناول جوانبها الفنية وعناصرها الإبداعية، وذلك حينما أوضح مدخلي أنه درس الأدب العربي وتعلَّم أن قدرة الشاعر على التعبير هي المحك الحقيقي والأساس الذي يُعنى به الناقد.

وعلى الرغم من اعتراف التيهاني، خلال الحوار، بأن المعلقة حققت الدهشة الإبداعية المطلوبة، فإنه عاد وأصرَّ على التمسك بمنهجه في نقد القصيدة أخلاقياً وفكرياً لا أدبياً، واعترى كلامه بعض الارتباك والتناقض، معترفاً بأن «الموضوع معقَّد»، وأن القصيدة، مع ذلك، «جميلة في ذاتها».

تناسي هوية البيئة

وضمن السيل العارم من الخوض والتعليقات التي تعرَّضت للتصوَّر المطروح من جهة الدكتور التيهاني، أطلَّ نموذجان معبِّران عن الفريقين اللذين انقسما تجاه المسألة.

أولهما ما سطره الكاتب السعودي الدكتور علي القحيص في مقال نشرته صحيفة «الجزيرة» بعنوان «التيهاني.. تائه بين التاريخ والحداثة!»، حيث أخذ على الدكتور التيهاني مبالغته في انتقاد أحد العمالقة الذين تركوا بصمات مؤثرة في تاريخ الأدب العربي، واتهام الشاعر عمرو بن كلثوم بالدعوة إلى العصبية والعنف والعنصرية والاستعلاء وحب الأنا، كما أعرب عن استيائه من وصْف ذلك الشاعر الفحل بأنه «أكذب شاعر عرفته العرب».

الدكتور القحيص لفت، في مقاله، أيضاً إلى خطأ رأى أن الدكتور التيهاني وقع فيه، ألا وهو تناسيه أن هؤلاء الشعراء كانوا يحملون هوية البيئة التي ينتمون إليها، ولا يمثلون أي طائفة أو مذهب أو جهة أو قومية بمفهومنا الحديث، موضحاً أن القبيلة والجغرافيا المحيطة بهم كانت أوطاناً فسيحة لا تقيدها الأرض والسماء.

ووصف بيئتهم المحلية آنذاك بأنها «تمثل منظومة اجتماعية قيمية منضبطة بقوانينها وأعرافها وعادات وتقاليد تحكمها أعراف يحترمها الجميع، وخطوط حمراء معنوية لا يمكن لأحد أن يتجاوزها».

وأخيراً، أكد أن ما أبدعه عمرو بن كلثوم يشكّل إرثاً أدبياً غنياً لا يمكن تجاوزه والتغاضي عنه، مهما بلغ التيهاني من خبرة وعلم ومعرفة، في عصر العولمة والتقنية الحديثة التي تتيح للجميع استحضار أي نتاج أدبي لأي مبدع، وكذلك الاطلاع على كل الدراسات النقدية.

جنون وتعصُّب

وعلى الجانب الآخر، جاء تعليق أحد أصدقاء الدكتور أحمد التيهاني، وهو الدكتور عادل خميس الزهراني، ملطفاً جو الهجوم الذي ناله بشراسة رأى أنها «جنون وتعصُّب وتشنُّج في التعامل مع الآراء والأفكار».

وتحت عنوان «حيرة و(تيهان) حول (هياط) ابن كلثوم»، أكد الدكتور الزهراني، في مقال نشرته صحيفة «المدينة»، أن الدكتور أحمد التيهاني ناقد متخصص في المجال، قضى عمره في هذا الحقل، واصفاً صديقه بأنه «شاعر معروف، وناقد مميز، خبير في الكتابة والإعلام وقراءة النصوص».

ودعا إلى ضرورة أن تتخلَّق مجتمعاتنا بسمات المجتمعات الواعية التي تعامل من هم مثل التيهاني بتقدير يستحقه، بوصفه إنساناً متخصصاً مدركاً لأبعاد القضايا التي يتحدَّث عنها، وتحاوره على هذا الأساس.

الوظيفة الجمالية

لكنَّ هذا الإنصاف الذي آثر الدكتور الزهراني أن يتحلَّى به في مقدمة مقاله لم يمنعه من الجهر برأيه المخالف في القضية، فأكد عدم اتفاقه عموماً مع هذا المنظور الذي تناول من خلاله التيهاني المسألة، موضحاً أن الأمر لديه على خلاف ذلك؛ فهو مرتبط بجوهر التجربة الأدبية الذي عدَّه مركزياً ووجودياً.

ولعلَّ أهم ما سلط عليه الضوء أن النص الأدبي نص جمالي في الأساس وعلى الدوام، وأن التجربة الأدبية لا تدرَك حق إدراكها خارج إطار الجمالية، مبيناً أن جوهر التجربة الأدبية يعتمد دائماً على البُعد الجمالي والوظيفة الجمالية للنص الأدبي، وأن هذا ما يجعل الخطاب الأدبي مختلفاً عن باقي الخطابات.

النقد الثقافي

الواقعة المثيرة للجدل أعادت إلى الأذهان قضية الدعوة إلى النقد الثقافي التي ابتدأها الناقد السعودي عبد الله الغذامي منذ ثلاثة عقود.

وباختصار، يعد النقد الثقافي من أهم الظواهر الأدبية التي رافقت ما بعد الحداثة في مجال الأدب والنقد، وجاء رد فعل على البنيوية اللسانية، والسيميائيات، والنظرية الجمالية، التي تعنى بالأدب باعتباره ظاهرة لسانية أو ظاهرة فنية جمالية.

واستهدف النقد الثقافي تقويض البلاغة والنقد معاً، وبناء بديل منهجي جديد يتمثل في المنهج الثقافي الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة ودراستها في سياقها الثقافي والاجتماعي السياسي والتاريخي فهماً وتفسيراً، الأمر الذي أثار جدلاً كبيراً بين المثقفين والنقاد العرب بعد ظهوره في الساحة العربية لكونه يدعو إلى قطيعة مع النقد الأدبي.

المعاني مطروحة في الطريق

ذلك المنهج يصطدم بقوة مع التصوُّر العريق للنظرية العربية التي أصَّل لها علماء النقد الأدبي القدماء، بدءاً بالجاحظ، صاحب العبارة الشهيرة: «المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، والمدنيّ، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخيُّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحّة الطبع وجودة السّبك، فالشعر صناعة، وضرب من النّسج، وجنس من التّصوير»، ومروراً بالمرزوقي، مؤسس نظرية «عمود الشعر»، الذي جعل من أركان جودة الشعر شرف المعنى، ويعني به أن يكون المعنى الشعري في أقصى درجات الجودة الفنية، وانتهاء بعبد القاهر الجرجاني، مؤسس البلاغة العربية، وصاحب نظرية النظم، الذي رسَّخ لفكرة الحكم النقدي على النص الأدبي من خلال تتبُّع الظواهر الفنية في صياغته النظمية.

كل ذلك قبل أن تغرق البلاغة العربية في خضم التقعيدات والتفريعات والحواشي التي جعلت منها علماً منضبطاً، لكنها لم تخطُ بها خطوة جديدة في طريق التذوق الفني الإبداعي، ليبقى هذا السؤال الملحُّ بلا إجابة: لماذا يظل معظم شعرنا العربي في العصر الحديث رهين تصورات محدثة ليست امتداداً طبيعياً لخصوصية النقد الأدبي بنظريته العربية؟!