ما إن تفتح دفتي إحدى مؤلفاته، حتى تشم رائحة الخليج، وهو المولع بالمكان والمتفاعل مع النص الأدبي، الذي يأخذنا من خلاله في «جولة حول العالم»، نطالع معه صنوف ثقافته، ونتذوق فنونه، ونستمع إلى موسيقاه، وهو المولع بالأوبرا، وبما تفيض به من حكايات عديدة.

إنه معالي محمد المر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم، الذي طاف بين أرجاء العالم والأدب أيضاً، ليشرب من نهر الثقافة الكلاسيكية المحلية والعربية، حيث عاين أدب طه حسين والعقاد، وقرأ «ألف ليلة وليلة» قبل أن يفتح عينيه على سير أعلام وأدباء وشعراء أوروبا، ليمضي من بعد في سرد حكاياته وتجاربه المختلفة، التي جمعها بين دفتي العديد من الإصدارات الأدبية والقصصية.

معالي محمد المر أديب ومثقف موسوعي، وصاحب مداد جميل، يدرك جيداً كيف يروض الكلمات، وأن يرصها بجانب بعضها بعضاً لتروي حكاية، تارة تكون جادة، وتارة تسلك دروب الفكاهة والسخرية، وهو الأديب الذي مر على مناصب عديدة، ورغم أهميتها، إلا أنه لم يغض الطرف عن المشهد الثقافي والإبداعي المحلي، وحتى مستقبله، ليؤكد في حواره مع «البيان» أن اعتماد تشريعات ومبادرات رسمية ومجتمعية ستسهم في نهضة ثقافية حقيقية، قائلاً: إن «دبي حققت بفضل نهجها المبتكر ومشاريعها المستقبلية نقلة نوعية في مواكبة عالم الميتافيرس»، مشيراً إلى أهمية آليات الاشتغال الثقافي ستعتمد خلال الفترة المقبلة على التطوير والتشجيع المستمر لكل أفراد المجتمع، منوهاً بأن مكتبة محمد بن راشد تمثل اليوم حاضنة لأكبر تشكيلة معرفية متنوعة.

 

كيف تقيمون جاهزية الحراك الثقافي المحلي استعداداً للخمسين عاماً المقبلة.. وما الذي يحتاج إليه من تطوير وتمكين بهدف ترجمة وتجسيد رؤى وتوجهات قيادة الدولة في هذا الميدان؟ 

على مدار الخمسين عاماً الماضية نجحت الإمارات العربية المتحدة في توفير البنية التحتية اللازمة للنهوض بالقطاع الثقافي، عبر عديد المبادرات والمشاريع والمهرجانات المتميزة، ومن بينها مهرجان طيران الإمارات للآداب، ومهرجان أبوظبي، وجائزة محمد بن راشد للغة العربية، وتحدي القراءة العربي، ومبادرة مكتبة محمد بن راشد، وإنشاء دار دبي أوبرا، ومنطقة القوز الإبداعية، ومعرضا الشارقة وأبوظبي الدوليين للكتاب، لتكون الإمارات بذلك وخلال سنوات قليلة أكبر محطة ثقافية عالمية، وإحدى أهم الوجهات الثقافية المفضلة للمبدعين من كل أنحاء العالم.

وكل هذه المبادرات والمشاريع وغيرها، شكلت البنية التحتية والقواعد الأساسية، التي يمكن من خلالها استشراف قيادة الإمارات العربية المتحدة لمستقبل القطاع الثقافي على الصعيدين العربي والإقليمي، ومن وجهة نظري فإننا بحاجة خلال الخمسين عاماً المقبلة إلى مزيد من تمكين ودعم الكوادر الوطنية من الشباب والاستثمار في قدراتهم ومواهبهم، من أجل بناء اقتصاد معرفي وثقافي مستدام، يتواكب مع المستجدات العالمية؛ وذلك من خلال منظومة تدريب مستمرة للشباب الإماراتي للعمل في القطاع الثقافي.

ومن الأمور المهمة، التي ستسهم في نهضة ثقافية حقيقية اعتماد تشريعات ومبادرات رسمية ومجتمعية عامة جديدة ومرنة، تواكب المتغيرات باستمرار، وتسهم في توحيد الجهود بين جميع المؤسسات المعنية بالثقافة والابتكار والإبداع، بالإضافة إلى إشراك المجتمع في التخطيط لبناء المستقبل الثقافي للدولة.

 

ماذا عن أهم ركائز العمل الجديدة التي يجب أن تقوم عليها آليات الاشتغال الثقافي في الفترة المقبلة، تعزيزاً لمسارات واستراتيجيات الاقتصاد الإبداعي في دولة الإمارات؟

من المؤكد أن آليات الاشتغال الثقافي خلال الفترة المقبلة ستعتمد على التطوير والتشجيع المستمر لكل أفراد المجتمع للمشاركة في العمل الثقافي بكل جوانبه ومجالاته، واستقطاب المواهب، وإطلاق المبادرات والتوسع في الشراكات الاستراتيجية محلياً وإقليمياً وعالمياً، الأمر الذي سيؤثر إيجاباً على الارتقاء بالعمل الثقافي وتنوعه، وما يدعم ذلك هو وجود بيئة ديموغرافية متنوعة الخلفيات الثقافية في دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تدعم استدامة هذا القطاع الحيوي والرائد.

 

فترة وجيزة مرت على افتتاح مكتبة محمد بن راشد، وبصفتك رئيس مجلس إدارتها، كيف تستشرفون مستقبل المكتبة وما تصوركم للدور الذي ستلعبه في تعزيز المشهد الثقافي المحلي والعربي والعالمي؟

إن المكتبات بشكل عام تعتبر صرحاً ثقافياً متكاملاً، وعنصراً رئيسياً وفاعلاً لصياغة وحفظ ثقافة المجتمع والتاريخ البشري والاكتشافات والاختراعات على مر العصور، لذا فالمكتبات تشكل وعاء للمعرفة، إلى جانب كونها اليوم منصات ثقافية شاملة تجمع أفراد المجتمع، ومنذ افتتاح مكتبة محمد بن راشد قبل بضعة أشهر شهدت استقطاب الكثير من فئات وشرائح المجتمع من مختلف الأعمار والجنسيات، حيث زار المكتبة ما يقارب أكثر من 65 ألف زائر حتى اليوم، وذلك بفضل التعدد في محتوياتها، حيث أصبحت تحوي إلى جانب الكتب، الإصدارات الأولى من المجلات، والصحف اليومية، والفيديو والتسجيلات، والمقاطع الصوتية، كما تلبي احتياجات البحوث للطلاب والباحثين، وتقدم الخدمات الاجتماعية، بالإضافة إلى تخزين التجارب والمعلومات والأفكار، التي تمر من جيل إلى آخر، والذي أسهم بشكل ملحوظ في التقدم الثقافي.

وتعد مكتبة محمد بن راشد الجيل المقبل من المكتبات محلياً وإقليمياً وعالمياً، بفضل ما تستخدمه من أحدث تكنولوجيا المكتبات العالمية والذكاء الاصطناعي؛ حيث تضم نظام مكتبة متكاملاً مع مخزن آلي، ونظام استرجاع إلكتروني للكتب، ومختبراً لرقمنة الكتب، والمختص بمسح الكتب والخرائط والمخطوطات، وغيرها من الأعمال المكتوبة، وتحويلها إلى مواد رقمية، بغرض حفظها وإتاحتها بسهولة أكبر وأسرع للطلاب والباحثين والعلماء والأدباء والمفكرين، إلى جانب برنامجها من الفعاليات والندوات والورش المتخصصة لمختلف فئات المجتمع، واستضافتها للعديد من المهرجانات الثقافية والفنية والموسيقية المختلفة والملتقيات، وهو ما سيسهم بلا شك في تعزيز وقيادة المشهد الثقافي في المنطقة بفكر ورؤية، تواكب الثورة التكنولوجية، التي يشهدها العالم.

 

ما الآليات الأقوى لتفعيل استقطاب الشباب وتحفيزهم للانخراط في مسارات العمل الثقافي المتنوعة، وخاصة على صعيد الاقتصاد الإبداعي، وما هي برامج عمل في المؤسسة بهذا الشأن؟

انطلقنا في مكتبة محمد بن راشد، لنسهم بدورنا في تفعيل دور الشباب وتحفيزهم، للانخراط في مسارات العمل الثقافي المتنوعة، من خلال وضع رؤية وخريطة استراتيجية واضحة ومرنة، تتواكب مع كل المتغيرات، وترتكز على الخبرات التي تهم جميع الشباب باختلاف ثقافاتهم، عبر سلسلة من الورش حول العديد من المجالات والموضوعات، والمنتديات والمؤتمرات الشبابية والمهرجانات والأمسيات وورش للشباب، إلى جانب الاعتماد على الحوار والتفكير التأملي والتواصل، لتمكين الشباب من اكتشاف هوياتهم وفهم هويات الآخرين، كما نعمل على الاستعانة بأشخاص متخصصين في تعزيز العمل الشبابي الثقافي وتطوير الأنشطة والممارسات وتطويعها، وفقاً للخلفيات الثقافية المختلفة.

كما وضعنا رؤية نوعية لمكتبة الشباب داخل أروقة مؤسسة مكتبة محمد بن راشد، وحرصنا على إثرائها بمجموعات متنوعة من الموضوعات الجاذبة لفئة الشباب، والتي تعتبر من أكبر المجموعات على مستوى المنطقة، مع ما يقرب من 11000 عنوان، تضم كتب الخيال والخيال العلمي والروايات الأخرى، إضافة إلى السير الذاتية، وكتب الفن والثقافة والعلوم الاجتماعية والرياضة ومجموعة رائعة من القصص والروايات المصورة، بما يتماشى مع رؤيتنا لتنمية روح البحث والمعرفة عند الأجيال القادمة، ليقودوا المشهد الثقافي على مدار الخمسين عاماً المقبلة.

 

ما طبيعة الخطوات المستقبلية التي تنوي مكتبة محمد بن راشد المضي بها بهدف إثراء الساحة الثقافية المحلية والعربية والعالمية؟

تمثل مكتبة محمد بن راشد اليوم حاضنة لأكبر تشكيلة معرفية متنوعة، تجاوزت أكثر من مليون عنوان بين مئات الآلاف من الكتب الورقية، والمواد الرقمية والبصرية والسمعية والصوتية، تغطي مختلف المجالات والتخصصات بلغات عدة، ومن المؤكد أنها ستسهم بشكل كبير في دعم وتعزيز استراتيجية الدولة الشاملة في القطاع الثقافي والمعرفي، والمساهمة في تعزيز وإثراء المشهد الفكري والإبداعي والمعرفي بالعالم العربي، وبما يتماشى مع رؤية الإمارات الرامية إلى الاستعداد للمستقبل.

وعن دور المكتبة في تطوير اقتصاد المعرفة، فهي تعد إحدى المبادرات، التي تؤسس بشكل عام لاقتصاد معرفي متقدم في هذا القطاع الرائد، الذي يحظى بدعم واهتمام ورعاية قيادتنا الرشيدة، حيث تمتلك برنامجاً ثرياً من الفعاليات والبرامج والمعارض والندوات والورش على مدار العام، بفضل توفير مساحات من الترفيه والأنشطة الاجتماعية والإنسانية والثقافية النوعية، ومناطق هادئة ومشتركة للدراسة والأنشطة التعليمية، إضافة إلى أماكن مخصصة للفنون والمعارض، ومسرح في الطابق الأرضي ومسرح خارجي يطل على خور دبي، وهو مصمم على الطراز المعماري الروماني، إلى جانب معرض ذخائر المكتبة، الذي يضم مجموعة فريدة من الكتب والأطالس والمخطوطات النادرة والقديمة، التي يعود بعضها إلى القرن الثالث عشر الميلادي، بما يدعم استقطاب جميع أفراد المجتمع.

وعملت مكتبة محمد بن راشد على وضع رؤية واستراتيجية متفردة تسهم على المديين القريب والبعيد في استقطاب الشباب، من خلال تنظيم العديد من الأنشطة والفعاليات، التي تدعم المواهب الشابة الواعدة، بما يسهم في دعم وتحفيز استراتيجية الدولة الشاملة في القطاع الثقافي والمعرفي، وتعزيز وإثراء المشهد والحراك الفكري والثقافي محلياً وإقليمياً وعالمياً.

 

بالنظر إلى ما تمتلكه مكتبة محمد بن راشد من مصادر معرفية وبحثية وحجم كبير من الكتب والمصادر، ما مدى إمكانية أن تسهم المكتبة مستقبلاً في تحول دبي إلى مركز جاذب لمراكز الأبحاث العالمية؟

تمثل المكتبة اليوم قيمة أدبية وعلمية وفكرية مضافة، حيث تسهم في رسم ملامح مستقبل المشهد الثقافي في دولة الإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى دورها الفعال في تعزيز مكانة الدولة كونها حاضرة ثقافية ومنارة معرفية، تستقطب الباحثين والأدباء والمفكرين والمبدعين من المنطقة والعالم.

وتتيح المكتبة اليوم واحدة من أضخم قواعد الإلكترونية الخاصة بالرسائل والأبحاث العلمية، للباحثين والطلاب، للاستفادة من مصادر المعلومات الإلكترونية باللغتين العربية والإنجليزية في المجالات المختلفة، حيث يبلغ عدد العناوين التي يمكن الوصول إليها، من خلال هذه المجموعة، أكثر من 5.5 ملايين إجمالي العناوين، من بينها أكثر من 800 ألف عناوين في درجة الماجستيـر، وأكثر من 4.5 ملايين إجمالي العناوين في درجة الدكتوراه، فيما يبلغ إجمالي النصـوص الكاملـة أكثر من 3 ملايين، من أكثر من 60 دولة حول العالم، في علوم الاتصالات والمعلومات، والفنون الجميلة والمسرحية، والهندسة العامة والتعليم، والتاريخ، واللغة والأدب، والفلسفة والدين، والقانون والدراسات القانونية، والعلوم الاجتماعية، وغيرها.

من المؤكد أن ما تمتلكه مكتبة محمد بن راشد من تتنوع قواعد البيانات من الأطروحات والرسائل الجامعية والبحثية، والتي هي في تزايد مستمر، يجعلها مستقبلاً واحدة من المراكز البحثية المهمة الجاذبة لمراكز الأبحاث العالمية، والتي تشكل في الوقت ذاته مصدراً بحثياً ومرجعياً نوعياً بمختلف اللغات، للباحثين والأكاديميين وطلاب الجامعات والمؤسسات البحثية والأكاديميين المتخصصين، بين المجالات ذات المحتوى الأكثر نمواً، والتي من بينها الصحة والعلوم الطبية، الزراعة، العلوم الاجتماعية، القانون، الرياضيات والعلوم الفيزيائية، العلوم البيئية، علوم النظام البيئي، الهندسة، العلوم البيولوجية وغيرها.

 

كيف تجد خطوات ومنجز دبي وجاهزيتها مع حلول 2025 الذي ستكون فيه دبي عاصمة للاقتصاد الإبداعي بحسب رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي؟

في ظل رؤية وتوجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، التي ترسم ملامح التمكين لمستقبل القطاع المعرفي والثقافي في الإمارة، تسير دبي بخطى واثقة نحو تحقيق الكثير من منجزاتها، لتكون عاصمة عالمية لهذا القطاع الحيوي، انطلاقاً مما تمتلكه من إمكانات وبنية تحتية عالمية، تؤهلها لكي تصبح مركزاً ثقافياً عالمياً ورائدة في الابتكار الثقافي، حيث يتمتع هذا القطاع بالقدرة على رفد التنوع الاقتصادي في المدينة وتشكيل مستقبلها.

 

تعتمد دبي استراتيجيات عمل نوعية في حقل التحضير لاستثمار عوالم الميتافيرس في الميدان الإبداعي، وهو ما ترجمته «استراتيجية دبي للميتافيرس» والقرارات والإجراءات المتبعة بالخصوص، من وجهة نظرك، كيف يمكن لهذه الخطوة أن تسهم في تحويل دبي إلى وجهة للمبدعين مستقبلاً؟ 

حققت دبي بفضل نهجها المبتكر ومشاريعها المستقبلية نقلة نوعية في مواكبة عالم «الميتافيرس»، بما يضمن مواصلة مسيرة التطور في الدولة، ويسهم في توفير واقع بديل، يتيح للمجتمع إمكانات التواصل وتبادل الأفكار، وهو بالفعل ما سيضمن استقطاب العديد من المبدعين من كل أنحاء العالم، حيث تتلاشى المسافات في العالم الافتراضي مشكلة مجتمعاً حيوياً وتفاعلياً، يضم ملايين المستخدمين، بما يدعم إبراز دور دبي مركزاً عالمياً لاحتضان المواهب الإبداعية.