يؤكد الروائي الأردني جلال برجس أنه ينبغي أن تكون الرواية إحياء للذات، وأن الرواية الناجحة تقوم على القيمة الفنية وهي الأهم، موضحاً للقارئ كيف يكتب وفق استراتيجية، وتخطيط، مروراً بتقمصه الشخصيات، والبحث، إلى النحت اللغوي. وقد فاز برجس بجوائز عربية وعالمية، منها الجائزة العالمية للرواية العربية لسنة 2021، عن روايته الشهيرة «دفاتر الوراق»، إضافة إلى أعمال أدبية مختلفة، كما بارز الحضور في المشهد الثقافي الأدبي العربي، فكان لـ«البيان» معه الحوار التالي:
بوصفك أديباً واسع الثقافة، هل لك أن تتحدث مع القارئ: ما الذي تحييه في الرواية، فمثلاً بعض الروائيين أصحاب الأسماء القديرة، يحيون التراث الصوفي في بلادهم، وبعضهم التاريخ، إلى الأفكار الفلسفية؟
أؤمن بأن الكتابة مسألة شعورية ذاتية، بمعنى آخر انصياع للميل الأدبي، ميل نحو إبصار الذات الإنسانية، أين تقف وسط هذا العالم المزدحم على الصعيد المادي، والملتبس على الصعيد الوجودي جراء أسئلته الكثيرة التي لم تجد إجابتها حتى اليوم. ووفق إيماني هذا فإني أسعى لفهم الإنسانية أولاً وفق أدواتي الذاتية، أفهمها لأنجو في البدء، ومن ثم أصبح قادراً حين ألتفت إلى الوراء على أن أطرح أسئلة تضاف إلى أسئلة لحظة الصراع مع الذات ومحيطها أما أن يُحيي روائي تراثاً ما، أو يرسخ مسألة ما، أو يوثق لجملة من الأحداث، فهذا جانب يسير من جوانب الرواية، بل إنه إحياء للذات وفق ذلك التصور.
بين فكرة السرد الماتع وفكرة السرد وظيفةً إبلاغيةً، أين معايير السرد يا ترى بالنسبة لمتفرد مثلك؟
السرد فعل أدبي غير مستقر، غير ثابت ولو كان عكس ذلك لما شهدنا تلك التطورات منذ نشأته العتيقة ولهذا لا أحبذ الحديث في المعايير لأنها في الأصل موجودة وغير موجودة: موجودة كمعايير ذاتية ربما لا توافق كاتباً آخر، وغير موجودة حينما نتحدث عن السرد بشكل عام. إن قلت إن لما أكتبه على الصعيد الروائي وظيفة إبلاغية فهذا صحيح وإن قلت إني أسعى لتصعيد القيمة الفنية في نصي الروائي فهذا أيضاً صحيح؛ هذان عنصران من جملة عناصر تؤلف العمل الروائي.
في خضم الحروب حولنا والأوبئة وغلاء الأسعار، كَتَبَ الرواة الجدد رواياتهم كما يَكتُبُ الكاتب في الصُحُف، فأين ترى حقيقة رواية اليوم بفنياتها؟
بعيداً عن التعميم فإن كثيراً من كتاب الرواية الشباب قد أنجزوا رواياتهم بمعزل عن التجربة وشروطها. اعتمد بعضهم على ما توفره تكنولوجيا الاتصالات من معلومات لكتابة الرواية، هذا إن كان هناك تحضير، وبحث مسبق. كيف يمكن استلهام شخصية خباز من دون عيش لحظته وهو أمام الفرن في نهار قائض؟ هنا تميزت بعض رواياتهم بالمباشرة إذ بدت الرواية كما لو أنها محضر بوليس. وهناك من ذهب إلى التصعيد اللغوي من دون فهم الحساسية اللغوية المطلوبة في هذا الشأن، فتحولت بعض الروايات إلى ممارسة لغوية بقيت على السطح غير قادرة على الخوض في عمق الشخصية. لا رواية ناجحة من دون قيمتها الفنية، فالحكايات تروى في كثير من الأمكنة. الأهم كيف نقولها.
كانت القصيدة رسالة مفتوحة للعالم، واليوم بجانبها الرواية، فكيف ترى الرسالتين في أفقهما كونك مطلعاً وقارئاً؟
ما يزال الشعر سيد الفنون والآداب على الرغم من تراجع الأضواء عنه، وعلى الرغم من تلك الهوة التي تخلقت بينه وبين بعض المتلقين، لأن أي نظرة عميقة إلى ما حولنا ستجعلنا ندرك كم هناك من شعر حولنا. كان وما يزال الشعر ديوان العرب، ولكن ما إن أحس المتلقي بتراجع الغنائية، والإيقاع الظاهر حتى وجد ذلك غريباً. هذا أمر مرتبط بتطور الشعر بمعزل عن تطور بيئته. إن من أهم العناصر التي جعلت الشعر ديوان العرب قدرته على استثمار المخيلة التي رسمت عوالم غير موجودة. وبالتزامن مع صعود التيار الروائي في العالم وجدت الرواية عربياً بطروحها البعيدة عن الغنائية، والقادرة على تفكيك أزمة الإنسان وطرح المزيد من الأسئلة مكانها. وعلى الصعيد الشخصي أذهب للكتابة بوعيين واحد شعري وآخر روائي.
ما وظيفة الرواية اليوم وأنت تقرأ روايات لنقاد أو شعراء، من الذين اتجهوا إلى حقل الرواية؟
لقد نجح الشعراء في كتابة الرواية، ليس على صعيد اللغة فقط وإنما على صعيد اقتناص الفكرة الاستثنائية أيضاً. وبرأي (ميرلو بونتي) «ليس هناك من رواية استثنائية إن لم تكن في المحصلة شعراً». الأمر هنا لا علاقة له بالغنائية، أو شعرية اللغة، إنما شعرية الحدث.
صدرت لك سيرة روائية بعنوان «نشيج الدودوك»، هل لك أن تتحدث للقارئ الذي لم يقرأها بعد عن فكرتها وعنوانها؟
إنها سيرة روائية تتألف من ثلاثة خطوط: سيرتي ابتداء من سنة 1970 وانتهاء بسنة 2022، وسيرة ثلاث مدن زرتها، وسيرة ثلاثة كتب رافقتني في السفر. في نشيج الدودوك كتبت عني كوني كائناً يتحرك في هذا الكون، وكتبت عن كثير من العناصر التي تحيط بي وأدت إلى القراءة، والكتابة، والسفر.
كيف تتجلى لديك فكرة الرواية قبل كتابتها، حدثنا عن هذا التكوين الخيالي كونك مبدعاً ينتصر للخير والحب؟
تظهر الفكرة فجأة، وأتعامل معها كمن يقع في غرام امرأة، وينتظر وقتاً ليتأكد هل ما يحمله نحوها حب صادق أم لا. إن بقيت الفكرة تراودني وتلح علي، أعمل عليها وفق استراتيجية معينة.