توازنات هشة ومخاوف متزايدة.. الاقتصاد التركي تحت الضغط

تحرك الدولار مقابل الليرة
تحرك الدولار مقابل الليرة

تصطدم التوقعات الأكثر تفاؤلاً بانخفاض معدلات التضخم وأسعار الفائدة في تركيا، والتي تأتي في صلب أهداف البرنامج الاقتصادي الذي أعلن عنه وزير المالية محمد شمشك في وقت سابق، بالتطورات السياسية التي تشهدها البلاد، في ضوء الأزمة السياسية الأكبر منذ عقد تقريباً، والتي اندلعت بعد توقيف المنافس الأقوى للرئيس رجب طيب أردوغان، رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بتهم شملت الفساد ودعم الإرهاب.

وضعت تلك التطورات تلك الخطة موضع شك متزايد، لا سيما في ضوء التداعيات المباشرة لها وانعكاساتها على الأسواق وسعر الليرة، وبما أجبر البنك المركزي على التدخل لرفع سعر العائد على الإقراض لليلة واحدة إلى 46% من 44%، في اجتماع مفاجئ، أكد خلاله البنك أنه يستهدف «الحفاظ على الأداء السليم للأسواق المالية» وتوعد باتخاذ «إجراءات إضافية» إذا لزم الأمر.

وتسببت الأزمة السياسية المتصاعدة في البلاد في صدمة واسعة للشركات التي تستعد لمرحلة جديدة من عدم اليقين في ضوء ضبابية اقتصادية محتملة جراء التطورات السياسية التي تشهدها البلاد تحت وطأة تصاعد حالة عدم الاستقرار الراهنة، التي تؤثر بشكل مباشر على قيمة الليرة التي كانت قد انخفضت إلى مستوى قياسي منخفض جديد عند أكثر من 42 ليرة للدولار قبل أن تعوض جانباً من خسائرها لاحقاً بعد دعم من المركزي، كما شهدت الأسواق موجات بيع للأصول التركية.

من جانبها، تسعى الحكومة التركية للتقليل من مدى تأثير الأزمة الحالية على الاقتصاد وبرنامج التحول الاقتصادي الذي تتبعه البلاد. وهو ما ذكره وزير المالية لمجموعة من المستثمرين عندما قال إنه لا يرى أن هناك تأثيراً دائماً على الاقتصاد، مجدداً التأكيد على عدم إجراء أي تغيير على نهج البرنامج الاقتصادي الذي قدمه منتصف 2023 إبان أزمة العملة التي كانت تواجهها البلاد. كذلك فإن محافظ البنك المركزي التركي، فاتح كاراهان، قد ذكر أن تلك الاضطرابات «مجرد عارض مؤقت» مكرراً ما ذكره شمشك بأن بلاده «سوف تفعل المزيد من الإجراءات لترويض التضخم».

الليرة

هذا ومع بداية عهد أردوغان، تم إقرار قانون يقضي بحذف ستة أصفار من الليرة التركية في محاولة للحد من انهيارها الحاد، الأمر الذي جعل سعر الصرف يقترب من مستوى يعادل دولاراً واحداً لكل ليرة. لاحقاً بعد ذلك شهدت العملة استقراراً بشكل نسبي لتتراوح قيمتها حول 4 ليرات مقابل الدولار الواحد حتى أواخر العام 2017، قبل تصاعد أزمة الليرة في العام التالي.

وبحلول شهر نوفمبر من العام 2021، تجاوزت العملة التركية حاجز 10 ليرات، واستمرت في التراجع لتصل إلى أكثر من 16 ليرة بنهاية العام ذاته.

ظلت أزمة العملة التركية عرضاً مستمراً، وفي خلال العام 2023، هبطت الليرة إلى مستويات غير مسبوقة، عندما تم تداولها عند أقل من 20 ليرة مقابل الدولار تقريباً، رغم محاولات المركزي التركي للتدخل وضبط سعر الصرف.

ومع تصاعد الضغوطات الاقتصادية والتوترات السياسية الداخلية، يحوم سعر الصرف في مارس 2025 فوق 40 ليرة لكل دولار عند أدنى مستوى.

اقتصاد هش

«الاقتصاد التركي هش للغاية، وكأنه يسير على حافة السكين»، بحسب الكاتب والمحلل الاقتصادي التركي، ناكي باكير، والذي يسلط الضوء خلال حديثه مع «البيان» على عاملين رئيسيين يشكلان تهديداً للمشهد الاقتصادي في البلاد.

العامل الأول يرتبط بوجود أكثر من 300 مليار دولار من الأموال الساخنة الأجنبية في الاقتصاد التركي، يتمثل جزء منها في سوق الأسهم وأدوات الدين مثل السندات. وفي حال حدوث هروب جماعي لرأس المال، قد تنهار التوازنات الاقتصادية بالكامل.

أما العامل الثاني، فيتعلق بسلوك الفاعلين المحليين في الاقتصاد؛ فمنذ 18 مارس، خرجت 675 مليار ليرة تركية من صناديق أسواق المال، في حين زادت التدفقات إلى الصناديق الحرة المقومة بالليرة التركية بمقدار 157 مليار ليرة، مما يعني أن صافي التدفقات الخارجة بلغ 518 مليار ليرة تركية (ما يعادل 13.6 مليار دولار).

ومن المحتمل أن يكون جزء كبير من هذه الأموال قد اتجه إلى الدولار، حيث ارتفعت الودائع الدولارية بمقدار 8 مليارات دولار خلال الأيام الخمسة التالية لـ18 مارس (بعد اندلاع الاحتجاجات عقب توقيف السلطات التركية رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو).

ويشير الكاتب الاقتصادي التركي إلى أن هذا الاتجاه نحو العملة الأجنبية «قد يؤدي إلى صدمات جديدة في سعر الصرف، فيما يواصل البنك المركزي استنزاف احتياطياته من النقد الأجنبي لمحاولة ضبط الأسواق». ولا يعتقد في الوقت نفسه بأن المركزي يستطيع الصمود طويلاً.

وكان سعر الليرة قد انخفض في 19 مارس إلى أدنى مستوى على الإطلاق، عند 42 ليرة مقابل الدولار الأمريكي، عقب توقيف أكرم إمام أوغلو.

ويضيف: «إن الارتفاع الحاد والمفاجئ في سعر الصرف قد يؤدي إلى تدمير الاقتصاد بالكامل، حيث ستتعثر عملية رفع الفائدة الجارية، بل قد يصبح من الضروري زيادة الفائدة بشكل أكبر. كما أن القفزات في أسعار الصرف ستؤدي إلى زيادة التضخم وارتفاع تكلفة المعيشة عبر التضخم الناتج عن ارتفاع التكاليف».

هذه التطورات - في تقدير باكير - قد تشعل أزمة مالية جديدة في البلاد، تمتد إلى جميع القطاعات، مما قد يؤدي إلى أزمة اقتصادية شاملة.

ويختتم الكاتب والمحلل الاقتصادي التركي حديثه مع «البيان» بالإشارة إلى أن التوازنات الاقتصادية الهشة، عند اقترانها بالتوتر السياسي، تزيد من هشاشة الاقتصاد التركي الذي يسير على حافة الانهيار.

وخلال شهر فبراير الماضي، تباطأ التضخم السنوي في تركيا إلى أقل من 40%. وكان من المتوقع على نطاق واسع بعد تلك البيانات قيام البنك المركزي بخفض أسعار الفائدة.

وبحسب بيانات هيئة الإحصاء التركية (تركستات)، فإن معدلات التضخم تباطأت إلى 39.1% في فبراير مقارنة بـ42.1% في الشهر السابق. ووصل معدل التضخم الشهري إلى 2.27%، متراجعاً من 5% في يناير.

ومع تصاعد الأزمة التي تشهدها البلد، وبعد قرار المركزي المفاجئ للأسواق في اجتماعه الاستثنائي لا يُتوقع خفض الفائدة على المدى القصير. ووفق مورغان ستانلي، فإنه سيتم تأجيل أي تخفيضات في سعر الفائدة الرئيسي للبنك المركزي التركي حتى يونيو. بينما يتوقع غولدمان ساكس رفع سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 350 نقطة أساس.

إرباك الاقتصاد

الباحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية، طه عودة أوغلو، يقول لـ«البيان» إن الأزمة الأخيرة (المرتبطة بتوقيف رئيس بلدية إسطنبول) أسهمت بشكل كبير في إرباك الاقتصاد التركي والخطط الحكومية، فيما «لا يمكن حتى الآن تحديد مدى تأثيرها، خاصة فيما يتعلق بالسيولة والاستثمارات الأجنبية»؛ إذ يرتبط ذلك بمستقبل هذه الأزمة ونتائجها بين الحكومة والمعارضة.

ويضيف: «لقد انعكست هذه الأزمة سلباً الأسبوع الماضي، حيث ضخّ البنك المركزي (مليارات الدولارات) لدعم العملة التركية، وبانتظار نهاية الأزمة، يمكن تقديم صورة أوضح عن الاقتصاد».

وتشير تقارير في هذا السياق، إلى سحب البنك المركزي التركي 25 مليار دولار من السيولة الفائضة في أسبوع لضبط الاضطرابات التي شهدتها السوق السوق.

وعن مرحلة ما قبل الضبابية التي تثيرها تلك الأزمة الحالية، يشير أوغلو إلى أن «السياسات الاقتصادية، لا سيما المالية والنقدية، التي أقدمت عليها الحكومة منذ بداية العام، كانت قد أثمرت عن نتائج إيجابية، لا سيما فيما يتعلق بنجاحها في تقليص العجز في الحساب الجاري وزيادة الاحتياطيات النقدية. وقد أسهم ذلك ـ حتى قبل الأزمة الحالية ـ في استقرار العملة.. وحتى الربع الأول من العام الجاري، حققت الحكومة جزءاً كبيراً من أهداف البرنامج الاقتصادي الذي أعلنه وزير المالية التركي في مايو 2024، وهو إنجاز جيد في هذه الفترة الزمنية القصيرة».

وتشير البيانات الرسمية الصادرة عن معهد الإحصاء التركي، إلى نمو الاقتصاد بنسبة 3% على أساس سنوي في الربع الأخير من العام الماضي 2024، كما نما بنسبة 3.2 % للعام بأكمله بما يفوق التوقعات. كما كانت تشير تقديرات البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، الصادرة مطلع مارس، لتوقعات نمو اقتصاد تركيا بنسبة 3%.

ويعتقد أوغلو بأن ارتفاع معدلات التضخم تظل حتى الآن التحدي الأصعب والأكبر للاقتصاد التركي، خاصة أنه يرتبط بشكل مباشر بعملية الاستدامة الاقتصادية وتوزيع الدخل بشكل عادل. فيما تسارع الحكومة في تنفيذ خطط لخفض التضخم بهدف طمأنة الشارع التركي، الذي يشعر بقلق كبير جراء ارتفاع الأسعار.