كيف تؤثر السياسات التجارية الأمريكية المتقلبة في أسعار النفط؟

تشهد أسواق النفط حالة من الاضطراب المتواصل، تحت تأثير السياسات التجارية المتقلبة للولايات المتحدة الأمريكية، والتي باتت مصدراً رئيساً لعدم اليقين العالمي، مع «حرب الرسوم الجمركية» التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب.

وفي ظل تصاعد التوترات التجارية بين واشنطن وبكين، بدأت الأسواق في إعادة تقييم سيناريوهات النمو الاقتصادي العالمي، لا سيما مع ارتباط الطلب على الطاقة بمستوى النشاط الصناعي والتجاري في الاقتصادين الأكبر على مستوى العالم.

تنظر الأسواق إلى كل تصعيد في حلقات الحرب التجارية، على أنه ضربة محتملة للطلب العالمي على النفط، ما يؤدي إلى تقلبات حادة في الأسعار، وردود فعل سريعة من المستثمرين، في وقت تثير فيه الرسوم الجمركية مخاوف واسعة النطاق، بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي، مع تحذيرات متكررة من احتمال انزلاقه إلى حالة ركود.

هذه المخاوف، المتزامنة مع المخاطر المستمرة للتوترات الجيوسياسية –والتي تماهت معها الأسواق نسبياً في الآونة الأخيرة - تشكل ضغطاً مباشراً على توقعات الطلب على الطاقة، لا سيما أن أسواق النفط أكثر حساسية تجاه أي تطور سياسي أو اقتصادي مفاجئ.

وفي هذا السياق، لجأت العديد من البنوك الاستثمارية الكبرى، إلى خفض توقعاتها لأسعار النفط خلال الفترة المقبلة، ما لم يحدث تحول جذري في سياسات التجارة العالمية، أو استعادة الثقة بالأسواق المالية.

وبينما تترقب الأسواق أي مؤشرات على تهدئة التوترات بين واشنطن وبكين، يظل مشهد سوق النفط ملبداً بالضبابية وعدم اليقين، حيث تُلقي هذه السياسات التجارية بظلالها على قرارات الاستثمار في قطاع الطاقة، وتؤجج المخاوف من تراجع الاستثمارات طويلة الأجل في مشاريع النفط والغاز أيضاً.

وهو ما قد يؤدي، على المدى المتوسط، إلى خلل في التوازن بين العرض والطلب، خاصة في حال ارتفعت وتيرة تعافي الاقتصادات فجأة، لتبقى أسعار النفط رهينة لعوامل جيوسياسية وتجارية يصعب التنبؤ بها.

من جانبه، يقول محلل أسواق السلع في «يو بي إس غلوبال» لإدارة الثروات، جيوفاني ستونوفو لـ «البيان»، إن الرسوم الجمركية «المتبادلة» التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين، ستؤثر سلباً في النشاط الاقتصادي.

وقد خفض خبراء «يو بي إس» الاقتصاديون بالفعل توقعاتهم لنمو الناتج المحلي الإجمالي في عدد من الدول، تبعاً لذلك. وفي الوقت الذي يسعى فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تكثيف الضغوط على إيران، ومن خلال خفض صادراتها من النفط إلى الصفر، فرضت الولايات المتحدة عقوبات تستهدف صادرات النفط الإيرانية (بما في ذلك مصفاة الشاي)، التي يقع مقرها في الصين.

مخاوف الركود

ويشير ستونوفو إلى أن المخاوف من دخول الاقتصاد العالمي في حالة ركود، أدت إلى زيادة كبيرة في التقلبات داخل الأسواق المالية وأسواق النفط. وفي الوقت الراهن، هناك علاقة ارتباط إيجابي قوية بين أداء الأسهم الأمريكية وأسعار النفط الخام، وهي إشارة عادةً ما تعكس أن العوامل المتعلقة بالطلب، هي المحرك الرئيس للأسعار.. وقد شوهد هذا النمط من الارتباط القوي سابقاً خلال الأزمة المالية العالمية، وأزمة جائحة «كورونا».

بعض المؤشرات، مثل هيكل منحنى العقود الآجلة، الذي يشير إلى حالة «الكونتانغو العكسي»، أي عندما تكون الأسعار المستقبلية أقل من الأسعار الفورية، تدل على أن سوق النفط لا يزال يعاني من شح في المعروض. ومع ذلك، فإن الرسوم الجمركية، واستمرار حالة عدم اليقين بشأن الخطوات القادمة للإدارة الأمريكية، وتحديداً الرسوم التي قد تُفرض لاحقاً «من المرجح أن تضغط على معدلات النمو الاقتصادي»، وفق ستونوفو.

بناءً على ذلك، قمنا بخفض توقعاتنا لنمو الطلب العالمي على النفط بمقدار 0.4 مليون برميل يومياً، ليبلغ 0.8 مليون برميل يومياً خلال عام 2025. ويُعزى جزئياً عدم عمق هذا الخفض، إلى الأداء القوي لنمو الطلب خلال الربع الأول من 2025، والذي نُقدره بنحو 1.6 مليون برميل يومياً.

ويضيف: كما أننا نتوقع أن تشهد التوترات بين أكبر مستهلكين للنفط في العالم -الولايات المتحدة والصين- بعض الانفراج.. علاوة على ذلك، نرجح أن يتم الإعلان عن حوافز مالية ونقدية خلال الأشهر المقبلة، إلى جانب أن أسعار النفط المنخفضة، وضعف الدولار الأمريكي، قد يسهمان في دعم الطلب. ومع ذلك، تظل مستويات عدم اليقين المرتبطة بهذه التوقعات مرتفعة، وهو ما ينعكس بدوره على توقعاتنا المستقبلية لأسعار الخام.

أما في جانب العرض، فلا يزال المشاركون في السوق يُبدون قدراً كبيراً من التراخي، في ما يخص احتمالات حدوث اضطرابات. ويعود ذلك جزئياً إلى أن حالات التعطل التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة -مثل ما حدث في ليبيا- كانت محدودة من حيث الحجم والزمن، ولم تُحدث تأثيراً مستداماً.

تقديرات وكالة الطاقة الدولية

بحسب أحدث تقديرات وكالة الطاقة الدولية، الصادرة يوم الثلاثاء، فإنه من المتوقع نمو الطلب العالمي على النفط بـ «أبطأ وتيرة في خمس سنوات» خلال العام الجاري، كما أنه في الوقت نفسه من المتوقع تضاؤل مكاسب الإنتاج الأمريكي، بسبب الرسوم الجمركية الأمريكية على الشركاء التجاريين، وتحركاتهم الانتقامية.

تشير بيانات الوكالة إلى أنه من المتوقع ارتفاع الطلب العالمي على النفط هذا العام بمقدار 730 ألف برميل يومياً، بانخفاض كبير عن 1.03 مليون برميل يومياً، التي توقعتها الشهر الماضي.

ويشار إلى أن هذا الانخفاض يتجاوز تقديرات منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) لخفض الطلب، فبحسب التقرير الشهري الصادر عن المنظمة مطلع الأسبوع، فإن الطلب العالمي على النفط سينمو بـ 1.3 مليون برميل يومياً العام الجاري، وذلك مقارنة بنحو 1.45 مليوناً في التقديرات السابقة.

ضعف المعنويات

رئيس شركة رابيدان إنرجي، بوب ماكنالي مستشار الطاقة السابق في إدارة جورج دبليو بوش، يقول لـ «البيان»، إن سوق النفط تتأثر حالياً بشكل رئيس، بضعف معنويات الاقتصاد الكلي، وتسارع إنتاج أوبك+، أو ربما الحروب التجارية، وتقليص التخفيضات، إن صح التعبير.

في حين أن بيانات سوق النفط السائدة ليست متشائمة للغاية، وفي حين أن المخزونات منخفضة والطلب قوي، إلا أن المتداولين، ولأسباب مفهومة (ترتبط بتبعات الرسوم الجمركية المحتملة)، منشغلون بمخاطر الركود المستقبلية، واحتمالية فائض المعروض النفطي.

وبحسب بيان لـ «أوبك»، عبر موقع المنظمة الإلكتروني، فإنه «كما تم الاتفاق عليه خلال الاجتماع الافتراضي الذي عقدته الدول الثماني ذات التعديلات الطوعية الإضافية، بما في ذلك الإمارات والسعودية وروسيا والعراق والكويت وكازاخستان والجزائر وعمان، في 3 أبريل 2025، تلقت أمانة أوبك خطط تعويض محدثة».

وآلية التعويض تأتي ضمن التفاهمات المرنة داخل التحالف، بهدف التصدي لتقلبات السوق، وبما يخدم استقرار الإمدادات والأسعار.

وفي ما يتعلق بالتداعيات المحتملة للتطورات الجيوسياسية، يقول ماكنالي: «أما بالنسبة للمخاطر الجيوسياسية، فإن السوق لا تولي اهتماماً إلا لمخاطر الاضطراب من حين لآخر، وبشكل عابر.. وهذا أمر مفهوم، نظراً لوجود العديد من الهواجس المبالغ في تأثيرها المحتمل، مثل الحرب في أوكرانيا، والهجمات العسكرية الإسرائيلية، والتي لم يُسبب أي منها اضطراباً جوهرياً في إمدادات النفط الخام.

لذا، في ما يتعلق بالمخاطر الجيوسياسية، لا تزال السوق في حالة من الثقة».

وتحت وطأة حالة عدم اليقين الراهنة، الناجمة عن التوترات التجارية، عدّل عدد من البنوك توقعاتها لأسعار النفط، من بينها بنك بي.إن.بي باريبا، الذي خفض متوسط توقعاته لسعر النفط لهذا العام والعام التالي، إلى 58 دولاراً للبرميل، من 65 دولاراً. كما خفض بنك «إتش إس بي سي» توقعاته لمتوسطات أسعار النفط إلى 68.5 دولاراً للبرميل هذا العام، و65 دولاراً في العام المقبل.

كذلك خفض بنك يو. بي. إس توقعاته لسعر خام برنت بمقدار 12 دولاراً للبرميل، ليصل إلى 68 دولاراً للبرميل. وتشير تقديرات غولدمان ساكس، إلى أن خام برنت من المتوقع أن يسجل متوسطاً 63 دولاراً للبرميل، و59 دولاراً بالنسبة للخام الأمريكي خلال العام. و58 دولاراً لخام برنت، و55 دولاراً للخام الأمريكي العام المقبل.

من جانبه، يقول رئيس شركة ليبو أويل أسوشيتس، آندي ليبو، لـ «البيان»، إن الرسوم الجمركية تضغط على أسعار النفط، في وقت تخشى فيه السوق أن تؤثر تلك الرسوم سلباً في إنفاق الشركات والمستهلكين، ما يُبطئ الاقتصادات حول العالم.

ويضيف: «خلال الأسابيع القليلة الماضية، خفّضت إدارة معلومات الطاقة، ووكالة الطاقة الدولية، وأوبك، والعديد من بنوك الاستثمار، توقعاتها لنمو الطلب»، لافتاً إلى أنه على المدى القريب، تجد السوق نفسها عالقة بين رياح اقتصادية معاكسة تُضعف الطلب، في الوقت الذي تفرض فيه الولايات المتحدة عقوبات أشد على فنزويلا وإيران.

وحول تداعيات التطورات الجيوسياسية، يستطرد: أُخذت معظم التحولات الاقتصادية الكلية في الاعتبار في السوق، مع وصول أسعار برنت إلى هذا المستوى الحالي، ولكن مع وجود الكثير من عدم اليقين، إذا انزلق العالم إلى ركود، فقد تنخفض الأسعار.

طريقتان رئيستان

محلل الطاقة في مجموعة ستون إكس، أليكس هودز، يقول لـ «البيان»، إن سياسات التجارة الأمريكية ستؤثر في أسواق النفط بطريقتين رئيستين: تعطيل صادرات النفط والبترول الأمريكية إلى الصين، وإبطاء الاقتصاد العالمي، ما يقلل الطلب على النفط.

ويضيف: «من ناحية الطلب على النفط، تشير تقديراتنا إلى أن حوالي 400 ألف برميل يومياً من الطلب العالمي على النفط سيُفقد، بشكل رئيس في آسيا، بسبب تراجع التصنيع والنشاط الصناعي.. ومن ناحية التصدير، تُعدّ الصين مشترياً رئيساً لسوائل الغاز الطبيعي الأمريكية، وخاصةً البروبان والإيثان».

سيؤدي ارتفاع أسعار مشتري مصانع البتروكيماويات الصينية، إلى ضغط على هامش الربح. وسيؤدي ضغط الهوامش أيضاً إلى انخفاض الطلب على البروبان، والذي يُحتمل أن يصل إلى حوالي 200 ألف برميل يومياً. وستُنوّع الصين إمداداتها، من خلال شراء البروبان من الشرق الأوسط، ما يرفع الأسعار.

ويعتقد هودز بأن «هذه المخاطر على السوق مبالغ في تسعيرها، وأتوقع أن يتراوح متوسط أسعار السوق بين منتصف الستينيات وأواخرها (بالنسبة لخام غرب تكساس الوسيط)، وخام برنت بين أوائل السبعينيات.. سيتم اتباع طرق بديلة لتجنب الرسوم الجمركية، حيث ستستفيد بعض الدول الآسيوية الأخرى من التصعيد التجاري، مثل فيتنام».

مع انخفاض أسعار خام غرب تكساس الوسيط إلى ما دون نقطة التعادل المعلنة للآبار الجديدة (65 دولاراً للبرميل)، وفقاً لمسح بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس، يُتوقع تباطؤ في قطاع النفط الصخري، ما سيمثل استجابةً للعرض تدعم السوق. ويضيف: «أعتقد بأننا كنا في سوق بيع مفرط، ونتوقع حدوث انتعاش، على الرغم من أنه لا يزال من المتوقع حدوث تباطؤ اقتصادي».