تخيل أنك تدير شركة، تجتذب دائماً الموظفين الأذكياء والمهرة، الراغبين في العمل بجهد أكبر ولمدة أطول، بمقابل يقل بنحو 15 % عما يمكن أن يحصلوا عليه مقابل نفس الدور في مكان آخر. أتحدث هنا عن المحامين، وموظفي الاستقبال، وموظفي الموارد البشرية، والعاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات، أولئك الأشخاص الذين يعملون في وظائف تتوفر في جميع الشركات، وفي جميع القطاعات. هل يبدو ذلك أمراً بعيد المنال؟.
لا، بل ممكن.. إذا كنت تؤمن بالأكاديميين في أوروبا، الذين كشفوا عما يطلق عليه «فجوة الأجور المستدامة»، أو القبول برواتب أقل على نحو واضح، لكن في شركات تكون أكثر صداقة للبيئة.
ووجد الباحثون أن هؤلاء الموظفين يتقاضون ما بين 9 و15 % أقل من نظرائهم الذين يقومون بنفس الوظيفة في شركات النفط أو التعدين، أو غيرها من الشركات الأقل استدامة.
ومن المثير للاهتمام، أن الفجوة قد اتسعت منذ عام 2001، وهي آخذة في الاتساع، حسبما يشير فيليب كروجر أستاذ التمويل المسؤول في جامعة جنيف، وهو ما يتوافق مع فكرة أن الميل لتفضيل حماية البيئة، يتعزز بمرور الوقت. كذلك، تتسع فجوة الأجور في حالة العاملين ذوي المهارات المعرفية المتقدمة، مثل قدرات التذكر وحل المشكلات، فضلاً عن القدرات غير المعرفية التي يقدرها أصحاب الأعمال بشكل متزايد، مثل المثابرة، والتحفيز الذاتي، والمهارات الاجتماعية.
إذن، ماذا يعني ذلك، إن كان يعني شيئاً، بالنسبة لقادة الأعمال اليوم؟
نحن ندرك بالفعل أن العاملين يمكن أن يكونوا أكثر ميلاً إلى قبول أجور أقل، مقابل القيام بأعمال ذات مردود اجتماعي أعلى، ويشير البحث التي أجراه كروجر وزملاؤه، إلى أن هذا يشمل العمل الهادف من الناحية البيئية، ويحدد نسبة لحجم التخفيضات في الأجور في هذا السياق. لكن هل يمكن تفسير فجوة الأجور الخضراء بشيء آخر غير الرغبة في إنقاذ الكوكب؟.
ويستند البحث، الذي لم يخضع بعد لمراجعة مقارنات، إلى بيانات مفصلة للغاية من أصحاب العمل والموظفين في السويد، موطن غريتا ثونبيرج وحركة فلايجسكام، أو حركة «عار الطيران»، المناهضة لصناعة الطيران.
وقد اجتذب ثراء البيانات، التي تعود إلى التسعينيات، الكثير من الباحثين. فهل يهم حقاً أنها جاءت من بلد له تاريخ طويل في العمل البيئي؟ ربما، على الرغم من أن دراسة استقصائية أجراها معهد «آي بي إم» لقيم الأعمال في عام 2021، تشير إلى أن فجوة الأجور الخضراء موجودة بالفعل خارج السويد. وأظهرت الدراسة أن أكثر من ثلثي العمال في تسع دول، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين وألمانيا والبرازيل، يميلون أكثر لقبول وظائف في المؤسسات المسؤولة بيئياً واجتماعياً، وأن ما يقرب من نصفهم سيقبلون راتباً أقل للعمل في مثل هذه الأماكن.
لكن ما هي بالضبط الشركة المستدامة بيئياً؟
استخدم كروجر وزملاؤه ثلاثة مقاييس مختلفة لتحديد ذلك: انبعاثات الغازات الدفيئة الصادرة عن المؤسسة، والنتائج الصادرة عن مؤشر البيئة العالمي، ومسح لما يعتبره الناس صناعة مستدامة بيئياً.
وأظهر الاستطلاع أن القطاعات التي تم تصنيفها على أنها الأكثر استدامة، تشمل إعادة التدوير والبحث والصحة. وشملت الشركات الأقل خضرة، شركات التنقيب عن النفط ومناجم الفحم وصناعة السيارات.
وقد أفضى كل من المقاييس الثلاثة إلى نفس النتيجة، وهي أن العمال في الشركات ذات التقييمات البيئية الأعلى، أو التي تحقق انخفاضاً في مستوى انبعاثات الغازات الدفيئة، حصلوا جميعاً على أجور أقل.
وعلى العكس من ذلك، كانت الشركات التي عانت من نتائج مخزية وفقاً للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، تميل إلى دفع أجور أعلى، عادةً بنحو 6.5 %، في العام التالي.
ويمكن القول إن هناك بعض العدالة في دفع هذه الشركات غرامة مالية، في شكل أجور أعلى، لكونها ضارة بيئياً أو اجتماعياً. ولكن ثمة أيضاً جانب مظلم لفجوة الأجور المستدامة. فقد اتضح أن الموظفين في القطاعات الأكثر استدامة، يعملون لساعات أطول، قد تتجاوز الحدود بكثير، إذ غالباً ما تكون 50 أو 60 ساعة في الأسبوع. لذلك ربما ليس من قبيل الصدفة أن يحصلوا على إجازات مرضية أكثر، ومن المرجح أن ينتهي بهم الأمر للخضوع للعلاج بالمستشفيات، ومع ذلك، أعتقد أن الرسالة العامة هنا واضحة.
وهكذا، فإنه من المرجح أن يكون تعيين الكوادر من الأذكياء والمجتهدين والاحتفاظ بهم أسهل وأقل تكلفة، على الأقل في ما يتعلق بالأجور، وذلك إذا كانت الشركة مستدامة بيئياً حقاً.
من ناحية أخرى، فإن التظاهر بأن الشركة أكثر حفاظاً على البيئة مما هي عليه بالفعل، قد يكون أكثر خطورة مما تعتقد الشركات، حيث إن شركة المحاماة التي تتباهى، على سبيل المثال، باهتمامها بالبيئة، وتنتمي إلى المجموعات المتزايدة من المحامين أنصار تحقيق صافي الانبعاثات الكربونية، سوف تصبح مصدر إحباط كبير للمطلعين على بواطن الأمور، إذا استمرت في مساعدة شركات النفط في التغلب على الدعاوى القضائية المناخية. ومن ناحية أخرى، فإن الشركة التي تتولى الدعاوى القضائية المتعلقة بالمناخ، ربما تواجه تأثيرات عكسية تماماً.