القصص الخيالية مريحة كثيراً، لأن الشخصيات الرئيسة فيها تتمتع عادة بقوى خاصة، كما يظهر فيها عادة شيء سحري، ما يجعل الجميع يعيشون سعداء إلى الأبد. وعبر أوروبا والولايات المتحدة، تدير الحكومات موازناتها وكأنها تعيش في هذه العوالم الخيالية. وهنا، أنت لست بحاجة لوجهة نظر «جيرمانية» خاصة فيما يتعلق بالتمويل العام لتعرف أن هذا لن ينتهي على نحو سار على الأرجح.
لقد حذر مكتب الموازنة بالكونغرس الأسبوع الماضي من أن الماليات الحكومية الأمريكية تسير في مسار غير مستدام. وتوقعت الهيئة الرقابية المستقلة أن يستقر اقتراض الحكومة الأمريكية نسبياً عند نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي على مدار الأعوام العشرة المقبلة. ويتجاوز هذا بكثير متوسط 3.7% الذي ساد في السنوات الخمسين الماضية، وهي الفترة التي شملت الأزمة المالية العالمية وجائحة فيروس كورونا. ولمقارنة أكثر وضوحاً، فإن الاقتراض الأمريكي المحتمل سيكون أعلى بنحو 50% من الذي اقترحه وزير الخزانة البريطاني السابق كواسي كوارتنج بموازنته «المصغرة» عام 2022، والتي أفضت إلى انهيار سوق السندات في المملكة المتحدة.
هذا وحده سيكون مقلقاً بما فيه الكفاية إذا كان بإمكاننا أخذ أرقام مكتب الموازنة في الكونغرس الأمريكي على ظاهرها. لكن لا يجب علينا أن نفعل ذلك لأن الهيئة الرقابية في الكونجرس دأبت على التفاؤل الشديد خلال الأعوام الماضية. ويرجع ذلك إلى أنها مضطرة لبناء تقديراتها على سياسة الحكومة الأمريكية الحالية. والتي تفترض بشكل غير معقول، أن غالبية التخفيضات الضريبية التي أقرها دونالد ترامب في 2017 ستنتهي في 2025. وتفترض أيضاً أن القيود على الإنفاق العام، بموجب قانون المسؤولية المالية لعام 2023، ستظل لها تأثيراتها بعد 2025. وهذا يعني أن الإنفاق الحكومي المقدر، بما في ذلك على الدفاع، سيتراجع من 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي إلى 5.1% في 2034. وعلى مدار السنوات الخمسين الماضية، بلغ متوسط هذه النفقات 8% من الناتج المحلي الإجمالي. كما أن هذه الافتراضات ليست ذات مصداقية.
أضف إلى ذلك التقييم المتفائل بعض الشيء بأن الحكومة الأمريكية ستكون قادرة على الاقتراض قصير الأجل بشكل دائم بأقل من 3%، وبذلك تصبح الطبيعة الخيالية لهذه التوقعات واضحة. ورغم أن التوقعات الرئيسية لمكتب الموازنة في الكونجرس تشير إلى أن الدين العام يسير في مسار غير مستدام، وسيرتفع من 97.3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2023 إلى أعلى مستوى تاريخي له عام 2028، ثم إلى 116% عام 2034، إلا أن التوقعات أسوأ بكثير.
من ناحية أخرى، ورغم أنها ليست بالقدر نفسه من التطرف، إلا أن قصصاً خيالية عن المالية العامة تهيمن على النقاشات الأوروبية. وبعد المشكلة التي تسبب فيها كواسي كوارتنج وما تلاها من تحولات ضريبية، أظهرت توقعات مستقلة لمكتب مسؤولية الميزانية في المملكة المتحدة استقرار ديون المملكة المتحدة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العقد الجاري. لكن هذه التقديرات تستند إلى خيالات المملكة المتحدة ذاتها، بأن الحكومة ستبدأ في زيادة الضريبة على الوقود بما يتماشى والتضخم، وأن فوائد الإيرادات الناتجة عن الهجرة لن تكون لها تداعيات على الإنفاق العام، وأن ضبط الإنفاق العام سيأتي في وقت يسوده استياء كبير من الخدمات العامة، وأن التخفيضات الكبيرة في الإنفاق الرأسمالي الحكومي تتسق مع تسارع التقدم نحو الانبعاثات الصفرية.
ونحن لا نعلم بعد كيف سيعمل الإطار المالي الأوروبي الجديد على أرض الواقع، لكن تحليلات القدرة على تحمل الديون التي ستوجه طريقة عمله ستخضع للافتراضات نفسها المفرطة في التفاؤل بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ولن يكون الموقف أكثر سهولة عندما نضيف إلى ذلك الصعوبات البنيوية في منطقة اليورو، حيث يبدو من المرجح أن البنك المركزي الأوروبي سيكون بطيئاً في تيسير السياسة النقدية، وسيثبط ذلك النمو الأوروبي. كما أن الاختلافات المالية بين دول الشمال والجنوب الأوروبي تظل صارخة.
لكن الأنباء السيئة لكل الدول الغربية هي أنه إضافة إلى افتراضات التنبؤ شديدة التفاؤل، فإن الإبقاء على جودة برامج الصحة والضمان الاجتماعي في ضوء شيخوخة سكانية آخذة في التسارع، سيتطلب فرض ضرائب أعلى دون احتمالية تحسين الخدمات، ما يمثل عرضاً انتخابياً صعباً. أما الأنباء السارة فهي أن ضبط الموازنات المطلوب ليس مستحيلاً، طالما أننا لم نبدأ في الوقوع كضحية في أوهام مالية جديدة.
وعلى اليسار السياسي، فإن الخيال الأكثر شيوعاً يتمثل في إمكانية جمع التمويل الضروري من جيوب «الأثرياء» بعواقب تكاد تكون معدومة على بقية السكان. ولجمع المبالغ الضرورية، يجب زيادة الضرائب على الثروات والدخل بشكل أكثر عمقاً. لكن كلما زاد تركيزها، كلما شجعت على ممارسة التهرب الضريبي، ما يحد في النهاية من الإيرادات.
وينطوي الوهم الأكبر لدى الوسطيين على وجود سبيل لإقناع الجمهور بأن هناك حاجة إلى ضرائب أعلى والمزيد من الاستثمار العام، وأن ذلك يصب في الصالح العام. والأمثلة على برامج زيادة الإيرادات المفتوحة والنزيهة والناجحة، والتي تقلل تشوهات الإنفاق من خلال الإصلاح الضريبي، معروفة بندرتها. حتى المحاولات النموذجية، مثل زيادة التأمين الوطني في المملكة المتحدة عام 2002، اختارت الضريبة الأقل وضوحاً للجمهور، لكنها عادت بأكبر التكاليف على سوق العمل.
وفي اليمين السياسي، تتلخص القصة الخيالية القديمة المفضلة في أن التخفيضات الضريبية تزيد الإيرادات. ورغم صحة ذلك في حالات محددة ونادرة، فإن الدليل الدامغ يشير إلى هذا التخفيضات الضريبية على نطاق واسع، مثل التي حدثت في أمريكا عام 2017 فاقمت سوء المالية العامة، حتى وإن كانت إيجابية للنمو.
لكن ربما تكون القصة الخيالية الأبرز بين ذلك كله، هي توقع حدوث أي شيء لحل معضلة الموازنات غير المستدامة دون وقوع أزمة. ومن المرجح أننا سنواصل التخبط، متظاهرين بأن الأمور تسير على ما يرام، حتى يتصدع شيء ما. لكن المشكلة هي أن النظام المالي سينهار، ولن تكون هناك نهايات سعيدة.