بالنسبة للمستثمرين، لا شيء أكثر إثارة للقلق تقريباً من صعود الشعبوية السياسية، فقط قُم بتوجيه هذا السؤال إلى أي شخص من حاملي سندات الحكومة الفرنسية وسيتأكد لك ذلك.

وفي الأيام الأخيرة، ارتفعت علاوة المخاطرة على هذه السندات - قياساً على الفارق بين السندات الفرنسية والألمانية لعشر سنوات - في أعقاب الفوز الكبير الذي حققه اليمين المتطرف الشعبوي الفرنسي في الانتخابات البرلمانية الأوروبية.

ويؤدي ذلك إلى إثارة مخاوف المستثمرين ويكثف التدقيق حيال الجماعات اليمينية الشعبوية الصاعدة الأخرى التي قد تكون لديها سياسات خاصة تتعلق بالتضخم وتنامي الديون. ويعد دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي المحتمل، مجرد مثال آخر واضح لذلك.

لكن مع تصاعد التوتر، فإن التيار اليميني الشعبوي ليس وحده من يستحق الاهتمام؛ فقد يفاجئنا النظير اليساري ببعض المفاجآت هو الآخر. وقد لا يبدو ذلك واضحاً حالياً، فالأحزاب اليسارية التي في طريقها للفوز بالانتخابات هذا العام، مثل حزب العمال البريطاني، معتدلة نسبياً.

ومع ذلك، يُظهر التاريخ أن الأصوات الاحتجاجية يمكن أن تنقلب بسهولة حال فشل أحد أشكال الشعبوية في تحقيق ما يرغب فيه الناخبون. وعلى نحو مماثل، قد تتفاجأ مجالس الإدارة ببعض الأفكار المتداولة داخل الطيف السياسي ذي الميول اليسارية في أوروبا.

لنأخذ على سبيل المثال الأزمة الكبيرة لقطاع العقارات في برلين. فقبل عقدين، اكتسبت المدينة سمعة، كما وصفها عمدة سابق، بأنها «فقيرة ولكنها جذابة»، لذلك، توافد الفنانون والتقنيون الشباب إلى عقاراتها المزينة بالرسوم الجدارية؛ لأن الحياة بدت ميسورة التكلفة. ثم انقلبت الأمور عندما جاءت الكيانات العقارية الكبرى.

فمنذ عام 2007، أنفقت عشرات المجموعة الاستثمارية العقارية – مثل دويتشه فونين، وفونوفيا، وكوفيفيو، وأدلر – أكثر من 42 مليار يورو لشراء عقارات في المدينة. وكان مخططو المدينة يأملون أن يؤدي ذلك إلى تعزيز المعروض من المساكن.

بدلاً من ذلك، ارتفعت الإيجارات بشدة، حيث تضاعفت 3 مرات في أحياء، مثل فريدريشين-كروزبرج ونويكولن، فيما تضاعفت مرتين في المناطق النائية، مثل مارزان-هيلرسدورف. وبالنظر إلى أن برلين مدينة يسكن فيها أربعة أخماس السكان بالإيجار، فقد أثار ذلك غضباً شعبياً واسعاً، وخصوصاً بين الشباب المهمشين.

وهذا الوضع لا يقتصر على ألمانيا، فكما تظهر سلسلة حديثة من صحيفة فاينانشال تايمز، توجد ضغوط مماثلة في جميع بلدان العالم الغربي. وفي الواقع، تشير تقارير يوروستات إلى أنه في المتوسط في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، يعيش 42% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 عاماً مع الوالدين بسبب هذه الضغوط.

لكن الوضع في برلين خطير، وكذلك الاستجابة السياسية: ففي عام 2021، نظم النشطاء استفتاء غير ملزم حول ما إذا كان يتعين على الحكومة مصادرة 240 ألف مسكن في المدينة تملكها مجموعات استثمارية كبرى (تلك التي تمتلك أكثر من 3 آلاف عقار).

في البداية، بدا هذا كأنه مسعى غير واقعي، لكن كما توضح جوانا كوسياك، عالمة الاجتماع والناشطة من أصل بولندي، في كتاب جديد مدهش، فقد نجح المشاركون في الحملة في بناء تحالف شعبي. ثم استندوا إلى مواد غير معروفة في الدستور الألماني تحمي المواطنين من تركّز السلطة، لدعم مطالبهم.

وعندما أُجري الاستفتاء، تم تمريره بنسبة تأييد بلغت 59% من الناخبين. وعارضته الأحزاب السياسية الرئيسة ودعت إلى مراجعته. لكن بعد الانتهاء من ذلك في العام الماضي، تم اعتباره دستورياً. لذا يخطط النشطاء لإجراء استفتاء ثانٍ، وملزم هذه المرة. وحال تم تمريره، فقد تضطر حكومة برلين إلى إنفاق مليارات اليورو، التي لا تملكها حالياً، لإعادة شراء المجمعات السكنية من عمالقة العقارات وتحويلها إلى الملكية العامة.

وهذا من شأنه أن يثير استياء الرأسماليين المتعصبين للسوق الحرة. وتحذر شركات العقارات– وهي محقة في ذلك – من أن حدوث المصادرة سيؤدي إلى نتائج عكسية، لأنه سيقوّض الاستثمارات الخاصة في المستقبل، ويلحق الضرر بأولئك الذين يستثمرون معاشاتهم التقاعدية في صناديق العقارات (أي العمال العاديين).

والحقيقة أن الفكرة برمتها صادمة للغاية في نظر المراقبين الأنغلوساكسونيين لدرجة أن البعض قد يرغب في تجاهله باعتباره مجرد مثال «صُنع في ألمانيا»، لكن سواء كان متطرفاً أم لا، فهو بمثابة كناري في منجم فحم ينذر بكارثة، ويوضح ما يمكن أن يحدث عندما يندلع السخط الشعبي حيال ارتفاع الأسعار وهيمنة الشركات.

على أية حال، ليست برلين وحدها التي يتحدث فيها الساسة عن ضرورة مراقبة الإيجارات. فثمّة مناقشات مماثلة في ولاية واشنطن بالولايات المتحدة (حيث قفز متوسط الإيجارات بنسبة 34% من عام 2002 إلى عام 2019)، وداخل حزب العمال في المملكة المتحدة (حيث ارتفعت الإيجارات بنسبة 8.9% خلال العام حتى أبريل).

لذا، الدرس الذي يجب أن يتعلمه الساسة المعتدلون (ومستثمرو العقارات القلقون) من برلين هو أنهم إذا كانوا يكرهون فكرة السيطرة على الإيجارات و/أو المصادرة، فهم بحاجة ملحة لاستكشاف طرق بديلة لمواجهة أزمة الإيجار، وأبرزها تعزيز المعروض من المساكن.

وقد يتضمن أحد الأساليب لتحقيق ذلك تخفيف قوانين الملكية، لتسهيل البناء من قبل القطاع الخاص. وهذا مهم نظراً لأن الاستثمار في تطوير الإسكان تقلص من 0.17% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2001 إلى 0.06% في عام 2018، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وثمّة خيار آخر منطقي وهو تخصيص الأموال العامة لبناء الإسكان الاجتماعي، في حين سيكون الهدف الثالث هو إصلاح نظام الضرائب للحد من التحيز لصالح العقارات التي يشغلها مالكوها. وقد اقترحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على سبيل المثال، استبدال الضرائب على المعاملات العقارية بضريبة سنوية على قيمة الأرض.

ولن يكون من السهل تنفيذ هذه السياسات. ومع ذلك، ليس هناك شيء من شأنه أن يزعزع الثقة بالرأسمالية ويشعل شرارة الشعبوية المعادية للنخب – من اليمين واليسار – مثل نقص المساكن، وخاصة مع تفشي الهجرة؛ لذا نأمل أن يتصرف الساسة الوسطيون على وجه السرعة، فحال عدم حدوث ذلك، سيكون لدى المستثمرين أسباب أخرى كثيرة للقلق.