استطلاعات الرأي توحي بانهيار اقتصاد الولايات المتحدة بينما البيانات الفعلية تعكس وضعاً مغايراً تماماً

أجرى المصرف المركزي الهولندي دراسة العام الماضي لبيان كيفية تأثير التضخم على المعنويات وصياغته لها. وإذا ما استندنا إلى نتائج هذه الدراسة فستكون قاسية بالنسبة للرئيس الأمريكي، جو بايدن، مع تأهبه لحملته الانتخابية.

وجد خبراء الاقتصاد الهولنديون أن هناك اعتقاداً لدى المستهلكين، أو الناخبين، بأن الحكومة لا المصرف المركزي هي المنوط بها تحقيق استقرار الأسعار، وأن تقلب الأسعار بشدة يؤثر سلباً على الثقة في كل المؤسسات، ومثلما هي الحال في العلاقات العاطفية تكون استعادة الثقة صعبة حقاً بمجرد فقدانها.

لسوء الحظ، لم يجرؤ الاحتياطي الفيدرالي، حسب ما أعلم، على محاكاة هذا البحث. لذا، ليس بمقدورنا أن نعرف ما إذا كان الأمر ينطبق تماماً على الناخبين الأمريكيين أم لا. لكنني أعتقد أنه ينطبق عليهم، وأحث البيت الأبيض على وضع ذلك في اعتباره.

ثمة مفارقة غريبة تواجه فريق بايدن، فقد نفترض أن الاقتصاد الأمريكي ينهار إذا اطلعنا على استطلاعات الرأي، فقد أظهر استطلاع أجرته «الغارديان» بالاشتراك مع «هاريس» خلال الشهر الماضي أن 56% من الناخبين يرون أن البلاد تمر بركود اقتصادي، ويعتقد 49% أن سوق الأسهم منخفض هذا العام، ويظن 49% أن البطالة تسجل مستويات مرتفعة قياسية. وهذا غريب.

إذن، من غير المفاجئ أن 32% فقط من الناخبين يثقون في بايدن لإدارة الاقتصاد، مقابل ثقة 46% في دونالد ترامب، بحسب استطلاع أجرته «إبسوس»، ويعد هذا نذيراً بالسوء، في ضوء اعتقاد 88% في أن الاقتصاد هو العامل الأبرز في التأثير على أصواتهم.

في المقابل، تشير البيانات الاقتصادية الفعلية إلى صورة مختلفة تماماً، صحيح أن فترة بايدن شهدت تحليقاً لمستويات الدين الوطني وارتفاعاً مؤقتاً للتضخم، بيد أن الدين قفز بدرجة مماثلة في عهد ترامب. وكان ارتفاع التضخم ملحوظاً في أنحاء العالم الغربي، بما أنه كان يعكس في غالب الأمر صدمات سلاسل التوريد في حقبة الجائحة والحرب في أوكرانيا. وعلى أية حال، فقد انخفض التضخم هذا العام.

وفي الوقت ذاته، تسجل البطالة أدنى مستوياتها منذ 50 عاماً، وتشهد الأجور نمواً قوياً، خصوصاً في صفوف العمالة منخفضة الأجور، ويرتفع الاستثمار في التصنيع بمعدلات قياسية، ما يعزى جزئياً إلى قانون الحد من التضخم. الأكثر أهمية أن أربعة أخماس الاستثمارات ذات الصلة بقانون الحد من التضخم توجد في الولايات التي تميل إلى الجمهوريين، لا الديمقراطيين. وهناك قدر مماثل لذلك في المجتمعات ذات الدرجات التعليمية الأقل من المتوسط، بحسب ما صرحت به هيذر بوشي، المستشارة الاقتصادية للبيت الأبيض، في مهرجات «أسبن آيدياز» هذا الأسبوع.

وترجع بوشي هذا المسار إلى السياسات المدروسة التي أقرها البيت الأبيض لخلق وظائف في مناطق منكوبة، فيما يرجعه آخرون إلى السهولة التي يتمتع بها ضخ استثمارات في الولايات التي تميل إلى الجمهوريين بسبب القيود التنظيمية الأقل تشدداً فيما يتعلق بالتشييد والتوظيف.

وعلى أية حال، قد يفضي انعدام التوازن هذا إلى صعوبة سياسية في إلغاء قانون الحد من التضخم حتى وإن فاز ترامب بالانتخابات في نوفمبر، بما أن الكثير من المناطق التي تؤيد ترامب تشهد طفرة في الاستثمارات. ومع ذلك، تلقي هذه الفئة الديمغرافية ذاتها باللوم على بايدن بسبب الاقتصاد «السيئ».

ما السبب؟ ربما تفسر العيوب في البيانات ذلك. فلا تعكس دائماً سلة السلع المستخدمة في حساب متوسط التضخم، على سبيل المثال، الموازنات الفعلية للأسر، خصوصاً الأسر الأفقر.

وأيضاً، وحسبما يشير الجمهوريون، تهون بيانات التوظيف المثيرة للإعجاب من حقيقة أن الكثير من الأمريكيين الفقراء يعملون بوظائف عدة ليتمكنوا من سداد فواتيرهم، مما يؤدي إلى ازدواجية في الحسابات في بعض الإحصاءات.

وتشكل السياسة الحزبية والتضليل الإعلامي عاملاً آخر، فقد كشف الاستطلاع الذي أجرته جامعة هارفارد بالاشتراك مع «هاريس» أنه في حين يعتقد 59% من الديمقراطيين أن الاقتصاد يسير على المسار الصحيح، يتفق 13% فقط من الجمهوريين مع هذا الرأي، رغم أنهم جميعاً يواجهون الوضع الاقتصادي ذاته إلى حد كبير، لذلك، فأعتقد أن المسألة الثالثة والأكثر أهمية، التي سلط خبراء الاقتصاد الهولنديون الضوء عليها، تتعلق بالسيكولوجية المرتبطة بالتضخم. وخلافاً لخبراء الاقتصاد، يميل المستهلكون العاديون إلى الحكم على التضخم من خلال استدلالات بسيطة، مثل أسعار الوقود في المحطات. كما يركز المستهلكون على المستويات المطلقة للأسعار، لا الأرقام المئوية للنمو السنوي أو انخفاضه.

وفي ضوء القفزة التي حققتها المستويات المطلقة للأسعار بنحو 20% في عهد بايدن، وهي نسبة أكبر كثيراً مما مر به غالبية الناخبين من قبل، فإن ذلك يفاقم من الفقدان الأوسع نطاقاً للثقة في المؤسسات. ويعد هذا ضاراً بكلا الحزبين، بحسب استطلاعات الرأي لكنني أعتقد أن الأمر يضر ببايدن بصورة أكبر، بما أنه ترأس البلاد أثناء طفرة التضخم فيما يدعي ترامب مناهضته للمؤسسات.

إذن، هل ثمة ما يمكن للبيت الأبيض فعله، بخلاف الدعاء بأن تنخفض أسعار النفط؟ لقد عقدت بوشي الأسبوع الماضي ورشة عمل ضمت مؤيدين لبايدن في الغالب، وسمعت فيها طرح أفكار كثيرة، مثل تكثيف بايدن تواجده على وسائل التواصل الاجتماعي، والعمل مع المؤثرين المحليين لكي يرووا قصصاً شخصية عن الطفرة الناتجة عن قانون الحد من التضخم، فضلاً عن تبني لهجة شعبوية بسيطة وليست تكنوقراطية لمجاراة ترامب.

وهنا يجب الإشارة إلى أمر في صميم الموضوع: حينما وزع البيت الأبيض خلال فترة حكم ترامب في 2020 شيكات التحفيز لتعويض الركود الناجم عن الجائحة، أصر ترامب على أن تحمل الشيكات اسمه. وبذلك، ارتبطت هذه الشيكات باسمه بطريقة يسهل على الناخبين تذكرها، لكن حينما أسبغ بيت بايدن الأبيض سخاءه على المستهلكين، لم يرتبط هذا السخاء باسمه، وكان هذا خطأ كبيراً من جانب بايدن.

ربما يكون بمقدور البيت الأبيض تدارك ذلك حالياً، لذلك نجد جانيت يلين، وزيرة الخزانة، تتبنى لهجة أكثر شعبوية. وعموماً، ستكون هذه معركة شاقة وتكاد تكون مستحيلة، وستحتاج إلى الاستعانة بعلماء نفس وأنثروبولوجيا، بالإضافة إلى خبراء اقتصاد.

لكن ثمة شيء واضح وضوح الشمس، هو أننا بحاجة إلى تحديث الشعار الذي عرف في التسعينيات ويتمثل في أن الانتخابات تتوقف على «الاقتصاد، أيها الغبي». فاليوم، صارت المعنويات الاقتصادية وليس الحقائق «حصراً» هي ما يهم.