حققت فكرة الدخل الأساسي الشامل منذ فترة طويلة إنجازاً نادراً يتمثل في لفت انتباه كل من اليسار السياسي واليمين الليبرالي. ففكرة إعادة التوزيع التي ينطوي عليها دفع دخل للجميع دون أي شروط تروق للاشتراكيين، في حين أن يمين السوق الحرة يحب غياب البيروقراطية المتأصلة في هذه السياسة. وفي الآونة الأخيرة، اكتسبت هذه السياسة قاعدة دعم أخرى بين العاملين في مجال التكنولوجيا، الذين يرون فيها المستقبل في عالم آلي مثالي لا مكان فيه للعمل.
ولكن خبراء الاقتصاد التقليديون تمكنوا إلى الآن من إقناع الحكومات بعدم تطبيق الدخل الأساسي على أي نطاق، وذلك بالاعتماد على الحسابات الرياضية بدلاً من الأهداف المثالية. فعند إجراء الحسابات، إما يكون مستوى الدخل الأساسي منخفضاً جداً، بحيث لا يحقق الغرض منه، أو أن معدلات الضرائب اللازمة لتمويل دخل معقول تكون مرتفعة بشكل غير مقبول. ولا يبدو أي من الخيارين، أو حتى مزيج بينهما، حلاً مناسباً.
وقبل الجائحة، وجدت دراسة شاملة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تنفيذ هذه الفكرة سيتطلب دوماً «زيادات ضريبية هائلة إذا تم تحديد الدخل عند مستوى معقول». على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، ستتجاوز التكلفة المقترحة لدفع 1000 دولار شهرياً لجميع البالغين البالغ عددهم 258 مليون شخص، 3 تريليونات دولار سنوياً. وهذا يعادل تقريباً التكلفة الإجمالية للضمان الاجتماعي والرعاية الطبية والصحية في البلاد، لكنه لن يوفر دخلاً كافياً لمنع الفقر.
إن هذه الأرقام المخيفة يجب أن توقف النقاش حيال الدخل الأساسي الشامل، لكن هذا من شأنه أن يقلل من قدر لواء فصيل «نعم، ولكن» المؤيد للفكرة.
وهم يقولون نعم، نحن ندرك حساباتك الثابتة، لكن الدخل الأساسي الشامل سيزيد الإنتاجية بتمكين الناس من تحسين أنفسهم، وتعزيز مهاراتهم، وبدء الأعمال التجارية، والعثور على وظائف أفضل. والآثار الديناميكية تفوق الأرقام المزعجة.
ويسلط آخرون الضوء على إمكانات الدخل الأساسي المضمون في تحسين الصحة العقلية، وتوفير عمال أصحاء وأقل شعوراً بالضغط، ومن ثم يصبحون أكثر كفاءة. ويقول هؤلاء نعم أرقامك صحيحة لكنك لم تأخذ في الحسبان التحسن المطرد الذي قد يخلفه ذلك على المجتمع.
كان من الصعب الحصول على أدلة موثوقة بشأن هذه القضايا؛ لأن إجراء اختبارات واسعة النطاق لمثل هذه الفكرة مكلف للغاية. وكان الجميل في مشاركة خبراء التكنولوجيا أنهم مولوا أول تجربة مراقبة عشوائية واسعة النطاق وعالية الجودة وطويلة الأجل، بدعم من سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، وجهات أخرى. وتم إصدار النتائج الأولية لدراسة الدخل الأساسي الشامل غير المشروط، التي أجرتها «أوبن ريسيرش»، بقيمة 60 مليون دولار هذا الأسبوع.
وشملت الدراسة 3 آلاف شخص من تكساس وإلينوي على أساس مشاركتهم في دراسة يتلقون خلالها 50 دولاراً شهرياً أو أكثر لمدة 3 سنوات. لكن بشكل غير متوقع، تم إبلاغ ثلث المشاركين بأنهم سيحصلون على 1000 دولار شهرياً دون أي تأثير على مصادر دخلهم الأخرى.
وتكشف النتائج بوضوح أن تلقي المزيد من المال يوفر نمط حياة أفضل، مع زيادة الإنفاق والادخار. وهذا لم يكن مفاجئاً، حيث لم يطلب من أحد دفع مزيد من الضرائب، ولكن النتائج التفصيلية لا تصب في صالح فصيل «نعم، ولكن».
لقد قلل كل من المتلقين لـ 1000 دولار وشركائهم ساعات العمل، واختاروا الاستمتاع بوقت أطول للراحة. وكان هذا تأثيراً سائداً في العينة. ورغم أن هذا التأثير كان غير مرضٍ، إلا أنه ليس الأكثر سوءاً. وكان السؤال الأهم عن المنافع الديناميكية للدخل الشامل هو كيف سيستخدم الأفراد وقتهم الإضافي، هل سيستثمرون الوقت في التعلم، أو يعززون مهاراتهم، أو إيجاد فرص عمل أفضل، أو يبدأون عملاً تجارياً خاصاً بهم؟
وكانت الإجابة باختصار هي لا، فقد استبعدت الدراسة أي «تحسينات حتى لو طفيفة» في جودة العمل وتطوير المهارات. وفي أقصى تقدير، أمضى المستفيدون بعضاً من وقت فراغهم الإضافي في التفكير في بدء عمل تجاري، دون اتخاذ أي إجراء. وكانت هذه النتائج أسوأ بكثير مما توقعه الخبراء قبل الدراسة، ومن المثير للاهتمام أنها أسوأ من توقعات «تشات جي بي تي» بناءً على قراءة الجزء الأول من ملخص الدراسة.
هل أدى الدعم الشامل إلى جعل المستفيدين أكثر صحة من مجموعة المقارنة؟ كانت الإجابة لا مرة أخرى. ولم تكشف الاستطلاعات وفحوصات الدم للمستفيدين ومجموعة المقارنة عن أي تحسن في الصحة البدنية، وكان التحسن في الصحة العقلية مقصوراً على السنة الأولى. كما تضمنت النتائج زيادة في عدد زيارات المرافق الطبية واستهلاك الكحول.
فائدة هذه الدراسة وأهميتها تكمن في إضافة بعض الحقائق إلى نقاش كان مسبقاً يضع الرياضيات في مواجهة مع المثل العليا. وينبغي للنتائج المتواضعة أن تكون كافية لاتفاق الجميع على أن الدعم المالي غير المشروط لا يحقق آثاراً ساحرة، فنحن نعيش في عالم مليء بمفاضلات صعبة.
ومن المهم ألا نبالغ في استنتاج النتائج إلى حد التفكير في أن الفقراء كسالى أو أن إعادة التوزيع غير مجدية. إن زيادة دخل الفقراء يحسن ظروف معيشتهم بالتأكيد، ويحد من الفقر، ويسمح لأصحاب الدخل المنخفض بالاستمتاع ببعض الوقت بعيداً عن العمل.
نحن لسنا بحاجة إلى تقديم هذه المدفوعات للجميع بتكلفة باهظة ما لم تحل الروبوتات محل جميع وظائفنا. وحتى في هذه الحالة، دعونا لا نخدع أنفسنا بأن هذا سيخلق عالماً مثالياً.