يبدو وضع الحزب الديمقراطي قوياً، حتى قبل المؤتمر الوطني الديمقراطي الحماسي في شيكاغو، فقد أظهرت استطلاعات الرأي في أغسطس تخطي كامالا هاريس لدونالد ترامب في ثلاث ولايات متأرجحة مهمة في وسط غرب الولايات المتحدة، هي ميتشجن وويسكنسن وبنسلفانيا، وذلك لقدرتها على الترويج للتفاؤل وليس الخوف، إضافة إلى هفوات ترامب ذاته، فضلاً عن انتقال 30 % من استثمارات للقطاع الخاص بقطاعات استراتيجية دعمتها إدارة بايدن إلى المناطق الصناعية بوسط الغرب الأمريكي.
ولم تكن الاستثمارات في هذه المناطق، التي كانت الأكثر تأثراً بالصدمات التجارية، مجرد مصادفة، فكما أشارت ورقة بحثية نشرها مؤخراً معهد «بروكينغز»، فإن هذه الاستثمارات هي جزء من نهج منظومي يتبناه البيت الأبيض تضع نصب عينيها ثلاثة عناصر: التخفيف من حدة التدهور، الذي تعانيه المجتمعات الأكثر تأثراً بالصدمة الصينية بين عامي 2002 و2012، وتعزيز القطاعات الاقتصادية المعرضة لخطر وقوع اضطرابات في المستقبل، وتسريع استثمارات القطاع الخاص في قطاعات مهمة مثل أشباه الموصلات والطاقة النظيفة ومعدات الطب الحيوي.
وعادة ما يشير الناس إلى هذا على أنه سياسة صناعية، لكن ربما يكون بإمكانك تسميته التفكير المنظومي، ويعني حل المشكلات ليس باعتبارها مشكلات فردية، وإنما ضمن استراتيجية أوسع لربط النقاط ببعضها بعضاً لمعالجة الأسباب الجذرية، وليس الأعراض.
في هذه الحالة، فالنقاط المقصودة هنا اقتصادية وسياسية، وتمتد عبر قضايا وقطاعات ومواقع جغرافية مختلفة، ويعد التفكير المنظومي أكثر شيوعاً في مجالات مثل الاستراتيجية العسكرية والهندسة مقارنة بالاقتصاد، وهو أمر ستحتاج هاريس وفريقها إلى تبنيه، إذا فازت بالانتخابات الرئاسية.
وإلى الآن، تبقى الخطط الاقتصادية لنائبة الرئيس قليلة التفاصيل، وهذا متوقع بالنظر إلى الجدول الزمني للانتخابات، والحاجة إلى أن تتسم إلى حد ما بالمرونة السياسية، لكن في نهاية المطاف سيحتاج فريقها إلى البدء في توصيل النقاط في مجالات مثل الإسكان ورعاية الأطفال والمنافسة وسياسة الضرائب، إذا كانوا يرغبون فعلاً في مواجهة مشكلات الاقتصاد الأمريكي.
ولننظر مثلاً إلى سوق الإسكان، فهاريس محقة في التركيز على الحاجة إلى بناء منازل جديدة للمشترين الجدد، والنظر في إعلان حوافز ضريبية لشركات البناء والمشترين أيضاً، إضافة إلى طرق لإزالة الحواجز أمام تقسيم المناطق.
وهناك مشكلات أخرى في المنظومة تتسبب في تشويه السوق، الأولى هي الارتفاع المتزايد لأسعار التأمين على أصحاب المنازل، والثانية هي تعقيد سلسلة التوريد والتكلفة، (يتطلب الإسكان العديد من سلاسل التوريد المنفصلة للمواد)،.
ثم هناك الطريقة التي تسبب فيها الاحتياطي الفيدرالي، دون قصد، في خلق نقاط اختناق ضخمة بسوق الإسكان، من خلال تثبيت أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة، ولمدة طويلة، في وقت ظلت فيه الأسعار مرتفعة أيضاً.
ولا يمكن ولا ينبغي أيضاً توجيه هذه الرسائل، خلال الحملة الانتخابية، لكن ينبغي فهمها بصورة شاملة لصياغة أفضل السياسات للتعامل معها.
وينطبق الأمر نفسه على رعاية الأطفال، وهي مسألة أخرى تحظى بشغف هاريس، وفكرتها بشأن توسيع الائتمان الضريبي للأطفال بديهية، لكن معالجة المشكلات الأساسية في رعاية الأطفال ستتطلب نهجاً أوسع نطاقاً، في التعاطي مع اختلالات السوق، والتي أسفرت عن نظام يقدم خدماته للأثرياء في المقام الأول، أو الحاصلين على دعم حكومي.
وهذا يعني فهم السبب وراء امتلاك شركات الأسهم الخاصة 8 من بين 11 سلسلة لرعاية الأطفال في الولايات المتحدة، (ناهيك عن حقيقة أن بنوك الظل تحقق نجاحات في مجالات أخرى تهم الجمهور العام، مثل سوق قروض الطلاب والرعاية الصحية والتعليم) ودراسة الآثار المترتبة على إمكانية الوصول والقدرة على تحمل التكاليف.
وكما كتبت سابقاً تتمتع هاريس بالعديد من أوجه القوة، تتمثل إحداها في قدرتها كمدعية عامة على التعامل مع مشكلات متنوعة، وفحص الأمور من كافة الجوانب، وسيكون هذا معيناً لها في حملتها الانتخابية والمناظرات التي ستخوضها، لكن الحكم الجيد يتطلب نهجاً منظومياً، ويمكنك أن تحب أو تكره النهج الاقتصادي للرئيس بايدن، إلا أنه لم يكن عشوائياً.
وهذا البيت الأبيض قدم رؤية واضحة وموحدة، وهي أن الأسواق لا يمكن الاعتماد عليها دائماً، وأن القوة في يد الاقتصاد السياسي، وأن الحكومات يجب عليها التدخل بطرق منظومية لحماية مصالح المواطنين، وليس المستهلكين فقط.
والآن تحظى هاريس بفرصة لعرض تفكيرها المنظومي في قضايا مثل التلاعب بالأسعار، ومقترحها بحظر التلاعب في ارتفاع أسعار البقالة بمثابة إيماءة سياسية مهمة للناخبين الأكثر عرضة للخطر، والذين تضرروا بشدة من تضخم أسعار الغذاء، لكن معالجة التلاعب في الأسعار لن تتطلب النظر إلى هوامش محال البقالة فقط، بل تحتاج أيضاً إلى فهم كيف تسببت المضاربة المالية لأكبر تجار السلع الأساسية على مستوى العالم في ارتفاع أسعار الأغذية والوقود، خلال السنوات الماضية، وكما أوضح تقرير صدر مؤخراً عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية فإن «النشاط غير المنظم في قطاع السلع الأساسية هو المسؤول عن معظم الزيادات المضاربية للأسعار وعدم استقرار السوق»، منذ بداية الجائحة.
إن الطريقة التي تقفز بها مصارف الظل عبر الثغرات التنظيمية للاستفادة من مزايا غير عادلة، أو التفاعل المعقد بين أسواق الإسكان والسياسة النقدية، أو كيفية تجاوز السياسة الضريبية باعتبارها الحل الأوحد لتشوهات السوق، قد تبدو وكأنها تحديات متفاوتة، لكن في حقيقة الأمر يعد كل ذلك جزءاً من الصورة الأكبر، وتتمثل في حاجة مسؤولينا المنتخبين إلى فهم كيفية عمل الأسواق بصورة أفضل، وليس فقط ما تقوله النماذج الاقتصادية الكلاسيكية، حيث ينبغي وضع قواعد وسياسات تضمن أن يصب عمل الأسواق في الصالح العام. لذلك، إذا فازت هاريس بالسباق إلى البيت الأبيض فستكون في وضع فريد وقوي لفعل ذلك.