جون هوسمان
بينما تتبدى في أسواق الأسهم الأمريكية ملامح ثالث أكبر فقاعة مضاربة في التاريخ، فقد وصلت ثقة المستثمرين في بزوغ عصر اقتصادي جديد أقصى مستوياتها. ومن بين مقاييس التقييم العديدة التي بلغت مستويات قياسية، يبرز مقياس يعدّ مؤشراً موثوقاً على العوائد والخسائر المحتملة لمؤشر «إس أند بي 500» للسنوات العشر أو الاثنتي عشرة المقبلة؛ وهو مقياس نسبة القيمة السوقية للشركات الأمريكية غير المالية إلى «القيمة المضافة الإجمالية»، أو الإيرادات التي تولدها الشركة تدريجياً في كل مرحلة من مراحل الإنتاج. ومنذ مطلع عام 2022، تجاوز هذا المقياس قمم عامي 1929 و2000.
وعبر قرن من دورات السوق بدت التقييمات أقل موثوقية عندما كانت أكثر تطرفاً. والطريقة الوحيدة التي يمكن بها للتقييمات أن تصل إلى مستويات 1929 و2000 والمستوى الحالي، هو أن يتقدم السوق عبر كل تطرف أقل. رغم ذلك فإن القمم الحالية تخبر بالكثير عن العوائد المستقبلية.
والأوراق المالية ما هي إلا مطالبة بالتدفقات النقدية المستقبلية التي توزع على المستثمرين بمرور الوقت. وكلما ارتفع السعر الذي يدفعه المستثمرون لهذه التدفقات، تنخفض العوائد المتوقعة على المدى الطويل. ومقياس التقييم الموثوق هو أداة تحليلية مختصرة لتفسير هذه العلاقة.
وعلى غرار سابقاتها، يصاحب هذه الحلقة من المضاربات تفاؤل كبير جداً تجاه النمو المدفوع بالابتكار والزيادة الدائمة في الأرباح، مع ميل المستثمرين إلى تجذير هذا التفاؤل في توقعاتهم بشأن الآفاق الاقتصادية والاستثمار. وكما ذكرت مجلة بيزنس ويك عام 1929: هذا الوهم يتجسد في مصطلح «العصر الجديد». وهو مصطلح في حد ذاته ليس جديداً، لكن كل مرحلة مضاربية تعيد إخراجه إلى السطح.
والمشكلة ليست في اعتقاد المستثمرين بقدوم عصر جديد، بل في الفشل في إدراك أن تاريخ ريادة الأعمال برمته لا يتكون من أي شيء آخر غير تعاقب العصور الجديدة الواحدة تلو الأخرى، مثل طبقات الصخور الرسوبية، أو حلقات جذوع الأشجار القديمة.
وقد رصد الاقتصادي جوزيف شومبيتر هذه الظاهرة عام 1928، حيث أكد أن الابتكارات المستمرة التي تؤدي إلى ارتفاع مؤقت في الأرباح، ومن ثم تآكل هذه الأرباح مع توسع الأسواق، ليست مجرد ظاهرة «عرضية»، بل تمثل محركاً أساسياً للنمو الاقتصادي. ولأنه عادة ما تكون الموجة الأحدث من الابتكارات هي الأكثر تحقيقاً للأرباح، يصاحب كل حقبة اعتقاد بأن هوامش الأرباح المرتفعة تبرر وجود تقييمات سوقية تتجاوز الأعراف التاريخية.
وتميل أسهم الشركات العملاقة مؤقتاً إلى التأخر عن أداء السوق خلال تقدمه إلى تقييمات متطرفة لأن الشركات البراقة تحصد رسملة غير متوازنة. ويبدو أن الزيادة المستمرة في هوامش ربح الشركات الأمريكية في العقود الأخيرة تقدم بعض التبرير لهذا السلوك.
ومن المثير للدهشة أن هوامش أرباح الشركات الأمريكية غير المالية، قبل الفوائد والضرائب، لم تتغير كثيراً على مدار السبعين عاماً الماضية. والعوامل التي دفعت هوامش الأرباح إلى الارتفاع تمثلت بشكل أساسي في تخفيض الضرائب على الشركات وخفض أسعار الفائدة.
ومعظم تأثير هذه التخفيضات الضريبية كان قد تحقق بحلول منتصف الثمانينيات، بينما شهدت تكاليف الفوائد، كنسبة إلى القيمة المضافة الإجمالية، انخفاضاً حاداً منذ عام 1990. وتحركت هوامش أرباح التشغيل للشركات المدرجة في مؤشر «إس أند بي 500» بشكل عكسي مع انخفاض عوائد السندات ذات التصنيف «بي إيه إيه»، التي تمثل معياراً لتكاليف الفائدة. لكن موجة إعادة تمويل الديون خلال 2020 و2021 ساهمت في تأجيل تأثير ارتفاع أسعار الفائدة الأخير، والذي أصبح الآن أمراً واقعاً.
ورغم التطورات والابتكارات التي غيرت وجه المجتمع في العقود الماضية، فقد بلغ متوسط النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة منذ عام 2000 نحو 2.1% سنوياً، مقارنة بـ3.7% خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ودون تحقيق زيادة كبيرة في عدد السكان أو نمو القوى العاملة، فإن استعادة معدلات الإنتاجية السائدة قبل عام 2000 لن تسهم بأكثر من 0.5 نقطة مئوية في رفع معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي.
ويتجاوز الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للولايات المتحدة حالياً تقدير مكتب الميزانية في الكونجرس للطاقة الإنتاجية الكاملة عند التوظيف الكامل بنسبة 2.6%. مثل هذه الفجوات تعتبر مألوفة في المراحل الأخيرة من التوسع الاقتصادي، وغالباً ما يؤدي انكماشها خلال العامين إلى الأربعة أعوام المقبلة إلى تباطؤ النمو.
وبالنظر إلى التركيبة الديمغرافية للقوى العاملة، واتجاهات الإنتاجية، والفجوة الحالية بين الناتج المحلي الإجمالي والإنتاج المحتمل، فإن النمو الاقتصادي الحقيقي المتوقع للولايات المتحدة خلال السنوات الأربع القادمة قد ينخفض إلى ما دون 2% سنوياً.
إن العصر الجديد الأخير ليس إلا جزءاً من دورة اقتصادية لا تنتهي. والمستويات الحالية، التي تعد قصوى ونادرة للغاية تاريخياً، توفر للمستثمرين فرصة لإعادة النظر في مدى تعرضهم للمخاطر وتحملهم لها. وفي مثل هذه الأوقات، يعد استبدال التفاؤل المفرط بتحليل رقمي أكثر واقعية خطوة حكيمة للغاية.