شهدت البورصة الفرنسية عاماً سيئاً للغاية، مسجلة أسوأ أداء لها منذ الأزمة المالية التي عصفت بمنطقة اليورو، بعد أن تجمعت عليها عناصر عدة، وهي مخاوف المستثمرين من حرب تجارية محتملة، والاضطرابات السياسية، إضافة إلى تراجع الطلب على السلع الفاخرة التي تشتهر بها فرنسا.
وانخفض مؤشر «كاك 40»، المؤشر الرئيسي لبورصة باريس، بنسبة 3% منذ بداية العام، في حين حقق مؤشر «ستوكس 600 الأوروبي» الأوروبي مكاسب بلغت 6%.
وقد تبددت الآمال التي عقدت على بداية العام القوية، والتي كانت مدفوعة بالمبيعات القياسية لشركات السلع الفاخرة مثل مجموعة «إل في إم إتش».
وأحجم المستثمرون عن الاستثمار بسبب الأزمة السياسية، وضعف الطلب من سوق التصدير الرئيسي في الصين، وضعف الاقتصاد المحلي. كما زاد حالة التدهور سوءاً، احتمال نشوب حرب تجارية بعد أن هدد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بفرض تعريفات جمركية شاملة على السلع.
وقال رولان كالويان، رئيس استراتيجية الأسهم الأوروبية في البنك الفرنسي سوسيتيه جنرال «هناك كثير من الأمور تحدث في الوقت نفسه لدرجة أن الناس يريدون الابتعاد عن العلامات الفرنسية». وأضاف أن «هذا التراجع كان ملحوظاً للغاية».
وأدت هذه الأزمة إلى تفاقم الجدل حول كيفية تعامل البلاد مع العجز المتزايد في الميزانية. ورفع قلق المستثمرين بشأن الوضع المالي للبلاد بالفعل تكاليف الاقتراض لمدة 10 سنوات إلى ما يزيد على 3 بالمئة هذا العام. كما وصل الفارق بين العائد على السندات الفرنسية ونظيرتها الألمانية، التي تعد معياراً قياسياً، إلى أعلى مستوياته منذ أزمة الديون التي ضربت منطقة اليورو.
وتلقت فرنسا ضربة جديدة مطلع هذا الشهر عندما خفضت وكالة موديز تصنيفها الائتماني. جاء هذا القرار في أعقاب سحب الثقة من حكومة رئيس الوزراء المنتهية ولايته ميشيل بارنييه، حيث أشارت الوكالة إلى تدهور ملموس في التوقعات الاقتصادية للبلاد.
ويبرز التراجع في أداء البورصة الفرنسية بشكل صارخ عند مقارنته بأداء جارتها ألمانيا، التي شهدت بورصتها قفزة بنسبة 18.7% هذا العام، متجاوزة التوقعات المتشائمة حول اقتصادها المحلي.
كما تواجه شركات السلع الفاخرة، التي تعد حجر الزاوية لمؤشر كاك 40، تحديات متزايدة مع ظهور مؤشرات واضحة على تباطؤ مسيرة التعافي الاقتصادي في الصين بعد جائحة كورونا.
وشهد هذا القرن ظاهرة اقتصادية لافتة تمثلت في صعود الطبقة المتوسطة الصينية، ما أحدث ثورة في أرباح شركات السلع الفاخرة العالمية. فقد تدفق المستهلكون الصينيون على العواصم الأوروبية والآسيوية لشراء الحقائب والمنتجات الفاخرة.
كما نشطت جائحة كوفيد عمليات الشراء بقوة، حيث وجد المتسوقون العالقون في منازلهم ويشعرون بالملل متنفساً في إنفاق معونات التعطل عن العمل على شراء الإكسسوارات والمشروبات الروحية الفاخرة. نتيجة لذلك، حققت شركات مثل مجموعة «إل في إم إتش»، وشركة لوريال لمستحضرات التجميل نمواً مضاعفاً في أرباحها.
إلا أن المشهد تغير مؤخراً، إذ بدأ المستهلكون الصينيون في كبح إنفاقهم وسط مخاوف من تباطؤ اقتصادي حاد. وفي محاولة لمواجهة هذا الوضع، أعلنت الحكومة الصينية عن حزمة واسعة من الإجراءات التحفيزية لاستعادة الثقة في الاقتصاد والأسواق.
وقالت كارولين ريل، رئيسة العلامات التجارية الفاخرة في «بيكتت لإدارة الأصول»، بأن «خيبة الأمل الكبرى في الصين ربما وصلت إلى أدنى مستوياتها»، لافتة إلى أنها تنتظر أن تؤدي الحوافز الحكومية الصينية إلى تحفيز النشاط الاستهلاكي.
وأضافت: «لا أتوقع أن يزداد الوضع سوءاً».لكن المشكلة تكمن في أن أكثر من 20% من الشركات المدرجة في مؤشر «كاك 40»، مثل «إل في إم إتش» و«كيرينغ»، تعتمد بشكل كبير على السوق الصينية، وقد انخفضت أسهمهما بنسبة 12% و40% على التوالي هذا العام.
ولفت إيمانويل كو، المحلل في بنك باركليز، إلى وجود انقسام في السوق حول مستقبل شركات السلع الفاخرة، وما إذا كانت ستشهد انتعاشاً في 2025، أم ستواجه تراجعاً جديداً في أرباحها، متوقعاً نمو القطاع بنسبة 3% فقط العام المقبل وفقاً لأسعار الصرف الثابتة، واختتم بقوله: «لقد كان هذا عاماً مؤلماً حقاً».
هذا المزيج من العوامل السلبية يجعل مؤشر كاك 40 في وضع فريد من نوعه، ليكون المؤشر الرئيسي الوحيد على مستوى العالم الذي سينهي العام بخسائر.
وتكبدت البنوك وشركات التأمين الفرنسية، التي تشكل 10% من المؤشر، خسائر فادحة لسببين رئيسيين: تعرضها لتباطؤ النمو الاقتصادي، وامتلاكها حصصاً كبيرة من السندات الحكومية التي أصبح المستثمرون ينظرون إليها كاستثمار محفوف بالمخاطر.
ويتجلى هذا الوضع في أداء بي إن بي باريبا، الذي يعد أكبر بنك في أوروبا ويستخدمه المستثمرون عادة كمقياس لأداء الاقتصاد الفرنسي ككل، حيث تراجع سهمه بنسبة 8% هذا العام.
وتواجه صناعة السيارات الأوروبية تحديات غير مسبوقة، حيث تعاني شركة «ستيلانتيس»، عملاق صناعة السيارات، من منافسة شرسة من الشركات الصينية التي تتفوق في مجال السيارات الكهربائية.
إضافة إلى الاضطرابات السياسية. وقد انعكس ذلك على أداء أسهم الشركة التي تمتلك علامات تجارية شهيرة مثل بيجو وفيات وجيب، حيث هبطت بنسبة 41% في بورصة باريس خلال 2024.
وفي ظل تراجع أداء المؤشر الرئيسي للبورصة الفرنسية «كاك 40»، بدأت الشركات الفرنسية بالبحث عن بدائل، حيث اختارت شركة كانال+، المتخصصة في خدمات التلفزيون المدفوع، إدراج أسهمها في بورصة لندن هذا الشهر، غير أن أداء السهم لم يكن مشجعاً حيث تراجع بنحو 30% منذ بدء تداوله.
وفي السياق، أعلنت شركة «توتال إنرجيز» أنها تدرس «بجدية» خطوة إدراج أسهمها في البورصات الأمريكية. كما كشفت شركة «تيكيهو»، إحدى شركات إدارة الأصول الأسرع نمواً في فرنسا، الشهر الماضي عن دراستها نقل إدراجها من بورصة باريس إلى الولايات المتحدة.
لكن هذه التحديات التي تواجهها فرنسا ليست بمنأى عن السياق الأوروبي الأوسع؛ حيث يواجه صناع السياسة في القارة تحديات متعددة، أبرزها كيفية تحفيز النمو الاقتصادي في ظل شبح حرب تجارية عالمية مع احتمال فرض رسوم جمركية واسعة النطاق بعد فوز ترامب.
وفي هذا السياق، يقول كاو من بنك باركليز: «أوروبا بحاجة إلى محفز ما يجعلها تعتمد على نفسها، فقد اعتمدت طويلاً على الصين، لكن العالم اليوم أصبح أقل انفتاحاً والنمو الصيني يتباطأ».