مستقبل الإبداع في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي يصوره فيلم جديد عن حياة بريان إينو يثير تساؤلات عميقة عن الآثار المدمرة للذكاء الاصطناعي
يقال إن الحقيقة لها وجه واحد، في حين أن الأكاذيب لها وجوه عدة، ما يمنح التضليل ميزة عددية غير عادلة، لكن هل للحقيقة وجه واحد فعلاً؟
لنأخذ حياتنا الخاصة مثالاً، ما النسخة الأكثر صدقاً منها؟ هل هي الرواية الرسمية الواردة في سيرتنا الذاتية أو على الملف في موقع «لينكد إن»، أم هي التي نرويها عن أنفسنا؟ أهي تلك الروايات التي يقصها عنا أصدقاؤنا وأفراد أسرنا وراء ظهورنا؟ قد تكون كلها حقيقية في الوقت نفسه، أو تضليلاً.
يمكنك، وبشكل رائع، أن تستكشف فكرة استخلاص حقائق متعددة من المادة نفسها في فيلم «إينو» الذي شاهدته في الأسبوع الماضي. يستند الوثائقي إلى قصة حياة المنتج الموسيقي متعدد المواهب بريان إينو، الذي يبتكر ويولّد بواسطة الآلة رواية مختلفة في كل عرض.
وتوجد 53 كوينتليون نسخة ممكنة من الوثائقي، بحسب منتجي الفيلم، علماً بأن الكوينتليون هو عدد يساوي مليون تريليون، ما قد يشكل مجموعة ضخمة حقاً. وتخبرنا هذه التجربة الفنية بالكثير عن طبيعة الإبداع وتعددية الحقيقة في عصر الوسائط التوليدية.
ولإنتاج الفيلم، عمل المنتج جاري هوستويت، والخبير التقني المبدع برندان داوس، برقمنة أكثر من 500 ساعة من لقطات الفيديو والمقابلات والتسجيلات الخاصة بـ«إينو». ومن هذا الأرشيف، الذي يمتد على مدار 50 عاماً من إبداعات إينو مع فنانين من بينهم «تالكنج هيدز» و«ديفيد بوي» و«يو تو»، قام محررا فيديو بإنتاج 100 مشهد. ثم قام صانعا الفيلم بكتابة برنامج لتوليد مشاهد استهلالية وختامية مع إينو وتحديد هيكل تقريبي من 3 فصول، ثم أطلقوا العنان للبرنامج على هذا الأرشيف الرقمي، وربطوا مشاهد وتسجيلات مختلفة معاً لإنتاج فيلم مدته 90 دقيقة.
اعتبر النقاد هذا الفيلم، أو مجموعة الأفلام، غريباً ومثيراً، مثل إينو نفسه. وأخبرني داوس أنه قد يبدو عشوائياً قليلاً، لكن المشاهدين تمكنوا رغم ذلك من استيعاب محتوياته وكونوا سردية في عقولهم. وقال: «الجمهور وحده هو الذي يحدد». كانت النسخة التي شاهدتها عبارة عن مزيج من المقابلات والتسجيلات مع بعض المقارنات غير المترابطة، لكن السرد واضح. وقد أثار اهتمامي بشكل خاص قسم تحدث فيه إينو عن مفهوم «السينيوس». لقد قاوم إينو لفترة طويلة فكرة أن الإبداع هو نتاج عبقري واحد، بل هو نتاج ذكاء مجتمعي جماعي، أو «سينيوس». يقول داوس: «الفيلم هو تجسيد لهذه الفكرة.. السينيوس».
وقد أطلق هوستويت وداوس شركة تسمى أنامورف لتطبيق برمجياتهم التوليدية على أنواع أخرى من المحتوى. وتستهدف الشركة استوديوهات هوليوود ووكالات الإعلان والامتيازات الرياضية، لكن داوس يؤكد أنهم يستخدمون برمجياتهم الخاصة لإعادة تصور المحتوى البشري الحالي بطرق فريدة؛ فهم لا يستخدمون نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل «تشات جي بي تي 4» من «أوبن إيه آي»، لتوليد محتوى بديل.
ومع ذلك، يثير الاستخدام واسع النطاق والمتزايد لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، تساؤلات أخرى عن الصدق. وقد كتب الكثير عن مدى امتلاء النماذج بالعيوب، وأن بإمكانها توليد أمور غير حقيقية أو حقائق مفعمة بالـ «هلاوس». تعد هذه عقبة كبيرة إذا كان يرغب المستخدم في توليد مذكرة قانونية، لكنها قد تكون ميزة إضافية إذا ما تعلق الأمر بتوليد محتوى خيالي.
وللتحقق من مدى جودة هذه النماذج، كلفت نينا بيجوس، الباحثة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، 250 كاتباً بشرياً في عام 2019 و80 نموذجاً من نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي العام الماضي بكتابة قصص قصيرة بناء على الشروط نفسها. كان التحدي هو إعادة تخيل أسطورة بجماليون التي يخلق فيها الإنسان إنساناً اصطناعياً ويقع في حبه.
أخبرتني بيجوس أنها فوجئت بأن المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الآلة كان أكثر نمطية وأقل إبداعاً في البنية، ولكنه أيضاً أكثر وعياً. وبدلاً من تعزيز بعض الصور النمطية المجتمعية، بدا أن النماذج تتحداها. ففي قصصهم، كان عدد المبدعين من النساء وكان عدد العلاقات بين نفس الجنس أكبر، وهذا على سبيل المثال.
وتعتقد بيجوس في أن هذه القصص تعكس الطريقة التي تدربت بها النماذج على أيدي المبرمجين من البشر، رغم صعوبة معرفة ذلك بالتأكيد، لأن فهم عمل النماذج مبهم، لكن الباحثة أشارت إلى أننا بلغنا حالياً «آفاقاً جديدة» في الكتابة، التي يتم فيها الدمج بين المحتوى البشري وغير البشري في الواقع.
وهذا يثير المخاوف بشأن مدى هيمنة شركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية على ترميز قيم هذه الآفاق الجديدة في نماذج الذكاء الاصطناعي، والتي قد تتعارض مع مجتمعات أخرى. وتتساءل: «هل ستسيطر هذه النماذج والثقافات على كل مكان؟».
وسواء عززت الآلات الصدق أو قوضته، وبغض النظر عن ماهية القيم التي تعكسها، فسيتوقف ذلك كله في المقام الأول على كيفية تصميمها وتدريبها واستخدامها؛ لذا فمن الأفضل أن نولي انتباهاً أكبر.
جون ثورنهيل