التحول الجذري في برلين.. هل يؤدي إلى نهوض أوروبي؟

مارتن ساندبو

يستخدم مصطلح «بازوكا» تعبيراً مجازياً مبالغاً فيه عند وصف قرارات السياسة المالية، إلا أنه مناسب تماماً عند وصف تحول ألمانيا إلى الإنفاق بالعجز، بعد اتفاق سياسي استهدف التخلي عن حدود عجز الميزانية عند الإنفاق الدفاعي وتأسيس صندوق استثنائي ضخم بقيمة 500 مليار يورو للبنية التحتية، وذلك خارج الميزانية العادية التي تفرضها «مكابح الدين» العام، المنصوص عليها في الدستور الألماني.

وإن تم تمرير هذا الإصلاح، فإنه سيبقى بحاجة إلى تصويت المشرعين الألمان عليه، قبل إجراء أي تغييرات محتملة في البرلمان. وإن حدث ذلك، فإنه إلى حد كبير سيزيل العقبات التي فرضتها ألمانيا على نفسها، وكانت تعوق الزخم الاقتصادي والسياسي الذي بات الاقتصاد الألماني في أمس الحاجة إليه.

وإذا تم ضخ الأموال المخصصة للبنية التحتية بوتيرة سريعة وفعالة، فقد ينجح ذلك وحده في إنهاء حالة الركود التي استمرت أكثر من عامين. وحتى الاقتصاديون الأكثر تحفظاً يتوقعون أن يؤدي هذا التغيير إلى مضاعفة معدل النمو المحتمل.

ومن شأن الجمع بين تعويض النقص السابق في استثمارات البنية التحتية وزيادة الإنفاق الدفاعي أن يعالج أيضاً التحولات في السياسة الصناعية لألمانيا. وكلا الأمرين يمكن أن يسهم في التحول بعيداً عن الصناعات المتراجعة.

فالبنية التحتية الحديثة ينبغي أن تكمل القطاع الصناعي ضمن اقتصاد منخفض الكربون، في حين أن قطاع الدفاع بدأ استيعاب العمالة والمهارات التي لم تعد مطلوبة في سلسلة توريد محركات الاحتراق الداخلي.

وترحب الأسواق بهذه الخطوة، وأشار موجز السياسة الصادر عن معهد كيل إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض الألمانية بعد إعلان هذه التدابير. كما رافق ذلك صعود لأسعار الأسهم، وارتفاع في قيمة اليورو، واستقرار تكلفة التأمين ضد التخلف عن السداد، وكلها مؤشرات إلى تحسن توقعات النمو.

وهذا التحول الجذري في برلين لن يكون مفيداً لألمانيا وحدها، بل ستكون له تداعيات تتجاوز حدودها، وتتجاوز أيضاً المجال الأمني. ومن الصعب المبالغة في تقدير الثورة في سياسات ميزانية الاتحاد الأوروبي بسبب انتقال ألمانيا من كونها القوة الأكثر تشدداً في ضبط العجز إلى أكبر المدافعين عن الإنفاق بالعجز. وعندما استؤنفت «مراجعة الحوكمة المالية» بعد الجائحة، كان وزير المالية الألماني آنذاك هو الأكثر تشدداً في المطالبة بتضييق القواعد الجديدة للموازنة في الاتحاد الأوروبي، إلى حد يتجاوز اقتراح المفوضية الأوروبية نفسها. أما الآن، فبرلين تشكو من أن بروكسل لا تتساهل بما يكفي في هذه القواعد.

وقد يكون حلفاء ألمانيا الحريصون على التقشف في شمالي أوروبا محقين في شعورهم بالانزعاج. ولكنهم أنفسهم يمرون بتحول مشابه، إذ دعت رئيسة وزراء الدنمارك شركاءها إلى «الإنفاق، والإنفاق، ثم الإنفاق» على الدفاع.

وعندما يفرض الواقع الجيوسياسي الاختيار بين التشدد المالي والتشدد الدفاعي، فإن التقشف المالي هو الذي يتراجع. نتيجة لذلك، باتت السياسة المالية في الاتحاد الأوروبي أكثر انفتاحاً على الاحتمالات المختلفة.

وإذا كان هذا التحول الألماني ممكناً، فما الذي قد يحدث بعد ذلك؟ من المحتمل أن نشهد تغييراً في موقف برلين المعارض لاستخدام احتياطات روسيا المجمدة، التي تتجاوز 200 مليار يورو وتقع تحت الولاية القضائية لمنطقة اليورو.
وتحويل هذه الأموال إلى أوكرانيا كدفعة مقدمة على تعويضات موسكو عن الدمار الذي سببته سيكون التحرك الأكثر تأثيراً الذي يمكن أن تتخذه أوروبا. وهذه الخطوة ستؤدي إلى تغيير كبير في توازن الموارد لصالح كييف بعد تعليق المساعدات الأمريكية. كما ستؤكد أن أوروبا لاعب مستقل يحسب له حساب في أمن القارة.

ومن المحتمل أيضاً أن نشهد انفتاحاً أكبر من ألمانيا على فكرة «سندات اليورو» أو الاقتراض المشترك على مستوى الاتحاد الأوروبي. وتم تجاوز هذا الخط الأحمر عندما وافقت المستشارة السابقة أنغيلا ميركل على إنشاء صندوق التعافي الأوروبي بقيمة 800 مليار يورو عام 2020.

ورغم أن برلين والدول الأخرى المتمسكة بالانضباط المالي أصرت حينها على أن هذه الخطوة لن تتكرر، إلا أنه لم يعترض أحد على اقتراح المفوضية الأوروبية الأسبوع الماضي بإنشاء آلية اقتراض مشتركة بقيمة 150 مليار يورو، بل حظي بموافقة سياسية رفيعة المستوى خلال 60 ساعة فقط من طرحه، وهو ما يعد رقماً قياسياً. إنها مجرد مسألة وقت قبل أن يُنظر إلى خطوة مماثلة، وعلى نطاق أوسع، أنها ليست مقبولة فحسب، بل ضرورية.

وحتى الإنفاق الألماني الداخلي المحض قد يكون له تداعيات واسعة النطاق على مستوى القارة. فألمانيا لن تكون بعد الآن عائقاً أمام الطلب الكلي في منطقة اليورو. كما أن تحولها الهيكلي قد يساعد على إعادة توجيه الفائض التجاري للاتحاد الأوروبي نحو الاستثمارات الداخلية.

وبسبب الثقل الكبير الذي تمثله حصة ألمانيا في الإنفاق الأوروبي، فإن لديها فرصة استثنائية لتوجيه موجة الاستثمار الدفاعي القادمة وتعزيز كفاءة المشتريات والقدرة العسكرية. إذ يمكنها، على سبيل المثال، دعوة دول أخرى للمشاركة في طلبات شراء معدات عسكرية باهظة الثمن، ما يتيح تحقيق وفورات الحجم لصالح الجميع. كما يمكنها الدفع باتجاه توحيد المعايير والمواصفات الفنية والتوافق التقني، وهي عملية شائكة سياسياً ولكنها ضرورية مالياً وعسكرياً.

وهكذا، فإن برلين تستطيع حرفياً ومجازياً، أن تمنح أوروبا مكاسب أكبر مقابل كل يورو يتم إنفاقه.