بين الربح والاستدامة.. هل يخاطر الممولون بمستقبل الكوكب؟

ستيوارت كيرك

لا يغرنكم وجهي المبتسم في الصورة، فما زال الغضب يتأجج داخلي بسبب فقداني لوظيفتي حتى يومنا هذا. هذا فضلاً عن الضغوط التي أثقلت كاهل أسرتي، والتي اضطررنا بسببها إلى التخلي عن منزلنا في لندن، ودخولنا في دوامة الإفلاس.

الأسوأ في كلمتي التي ألقيتها قبل ثلاث سنوات، والتي أشرت فيها إلى أن التغير المناخي لا يشكل خطراً كبيراً على المحافظ الاستثمارية مقارنة بمخاطر أخرى كالركود وغيرها، هو أنها لن تثير أي ضجة في الوقت الراهن. ذلك لأن القطاع المالي، في عهد دونالد ترامب، ارتكب واحدة من أشنع الأعمال؛ إذ يبدو أنه تخلى عن إيمانه بالاستدامة.

فقد تفكك التحالف المصرفي لصافي الانبعاثات الصفرية، وتخضع كذلك أهداف الانبعاثات المرتبطة بالتمويل لإعادة النظر، وذلك لو أردنا وصف الأمر بصورة بكثير من اللطف. وفي الوقت ذاته، أتمنى لك وافر الحظ في العثور على مدير محافظ ما زال يؤمن بالاستثمار القائم على المعايير البيئية والاجتماعية وتلك ذات الصلة بالحوكمة. حيث سيكون مديرو المحافظ هؤلاء منشغلين للغاية بالتخلي عن الالتزامات الراسخة التي قطعوها بسحب الاستثمارات من شركات الوقود الأحفوري.

وبلغ فقدانهم للثقة في الاستدامة حد تعليق مبادرة مديري الأصول ذات الانبعاثات الصفرية أنشطتها في شهر يناير. وتجدر الإشارة أيضاً إلى نهاية نسخة قطاع التأمين من هذه المبادرات هي الأخرى. ولك أن تنظر إلى سخريتهم مني في عام 2022 حينما كتبت على هذه الصفحات أن مثل هذه المبادرات مجرد «هراء».

كنت لأتفهم الوضع لو كان الأمر ناشئاً عن البراغماتية. لكن التوجهات انقلبت رأساً على عقب. ولطالما تبعت الشركات الاتجاه الذي تتدفق إليه الأموال، خصوصاً المصارف. فحينما كنت مديراً للاستثمارات المسؤولة لدى مصرف كبير، أظهر استطلاع تلو الآخر رغبة العملاء في أن تكون استثماراتهم خضراء. ورَغِبَ الآباء والمؤسسات على حد سواء في أن تكون مدخراتهم «ذات طابع إيجابي». وبلغت التدفقات الواردة إلى الصناديق المستدامة 645 مليار دولار عالمياً في عام 2021، بحسب بيانات «مورنينغ ستار»، بما في ذلك المنتجات المراعية للمعايير البيئية والاجتماعية وتلك ذات الصلة بالحوكمة. وكان ذلك يمثل ربع كل التدفقات الواردة.

وتمكنت المصارف بدورها من تحقيق ثروات من كل شيء تقريباً، مثل السندات الخضراء والبحوث، وينطبق الأمر ذاته على مزودي المؤشرات، وشركات الاستشارات، وتحليل البيانات، وهلم جراً. لذا، نعم، كان الطلب موجوداً، لكن دوام الحال من المُحال. فعلى سبيل المثال، بلغت التدفقات الواردة إلى الاستدامة في العام الماضي 36 مليار دولار من إجمالي 1.5 تريليون دولار.

لكن مهلاً! لم تُروج لنا أهداف صافي الانبعاثات الصفري أو معايير البيئة والاجتماع والحوكمة باعتبارها مراعية للمساهمين أو أنها تعظم فرص الربح. كان الأمر ليكون منصفاً لو روجوا لها من هذا المنطلق. لكن حري بك التخلي عنها، فقد تغير العالم. لا، فقد تم التسويق لها من البداية على أنها معتقدات أساسية، فكانت الاستدامة واحدة من القيم الأساسية لأي مصرف، وكان إنقاذ كوكبنا غرضاً لأي مدير أصول.

لم تكن تلك العبارات مجرد مزحة، بل كانت تؤخذ على محمل الجد، وهو ما اكتشفه المشككون أمثالي على حسابهم الخاص. لكن، هل كان الأمر برمته مجرد وهم؟ إذا لم يكن كذلك، فمن المؤسف حقاً كيف فقد القطاع المالي بوصلته بهذه السهولة. وإذا كان القطاع لم يؤمن بالاستدامة أبداً، فسنكون جميعاً قد وقعنا ضحية لخديعة. فمن ذا الذي سيثق في مصرفي أو مدير محافظ بعد الآن؟

لذا، ومن وجهة نظري، لم يكن أمام صناعة التمويل خيار إلا استعادة زخمها من جديد. ويجب على الصناعة أن تذكّرنا على وجه السرعة بالدور المحوري الذي تلعبه لكي يكون العالم مكاناً أفضل.

ما زلت أؤمن بذلك، وكذلك آخرون كثر. لكن المشكلة تكمن في أن الكثير من النسخة الأولى من التمويل المستدام كانت معيبة. لكن لا عليك. فما يهم هو إقناع المصرفيين إيانا بصدقهم في المحاولة، وأنهم سيعاودون الكرة من جديد. لذا، فإن ردود الفعل السلبية الحالية تمثل فرصة للتخلي عن الممارسات المضللة والحفاظ على الجوانب الإيجابية منها، بالتزامن مع الترويج لرسالة مفادها أن التمويل أداة تهدف إلى الخير.

لنبدأ بالحديث عن المصارف. إن كنت أنا مديراً عالمياً للاستدامة، فسأذكّر المساهمين بأن 80 % من الطاقة العالمية ما زال يأتي من الوقود الأحفوري. هل ترغبون حقاً في انطفاء أضواء العالم؟ إن قطع التمويل بصورة غير واعية عن شركات الفحم أو النفط أو الغاز لن يكون منطقياً. لذا، فمن الأفضل التفاعل مع هذه الشركات ومساعدتها في مرحلة التحول، وتحفيز النمو الاقتصادي المطلوب للاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة.

كنت لأشير أيضاً إلى أن نصف انبعاثات الغازات الدفيئة يأتي من 30 شركة فقط، وأن 16 من بين هذه الشركات تملكها الدول. لذا، يجب على المصارف، بالإضافة إلى الحكومات والجهات التنظيمية، أن يركزوا جهودهم حيث تكون مهمة. وينطبق الأمر ذاته على المستثمرين. لكن يجب على ملاك الأصول ومديريها تدارك مصدر آخر مكلف للإزعاج. وكما أشرت من قبل، فإنهم يخلطون بين الاستثمار والتداول.

وتجدر الإشارة إلى أن شراء أو بيع الأسهم في سوق ثانوية في حد ذاته لا يحدث فرقاً. فالأسهم تمثل رأس مال دائم، ويوجد مشتر أمام كل عملية سحب للاستثمارات، والعكس صحيح. ولكي تكون مؤثراً على شركة ما، فأنت بحاجة إلى امتلاك أسهمها لكي يتسنى لك التصويت. ولعل استراتيجيات الإقصاء تأتي بنتائج عكسية، كما أنها غير أخلاقية، لأنك تجبر شخصاً آخر على امتلاك الأسهم التي تستثنيها من استثماراتك. لذا، فإن «الاستثمار» الوحيد الذي يحدث فرقاً هو ذلك الذي يكون عبر الأسواق الأولية التي تمنح فيها الأموال أو تسحب فعلياً، سواء أكان ذلك عن طريق رؤوس الأموال الاستثمارية أم الأسهم الخاصة أم الإقراض المباشر. لذا، يجب أن تبدأ النسخة الثانية من التمويل المستدام من هذا المنطلق.

لكن ماذا عن المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة؟ أنا من بين المؤيدين لهذه المعايير، على الرغم من اتهامي بأنني واحد من أسباب تداعيها. لكنني لست مؤيداً لها باعتبارها طريقة لانتقاء الأسهم، رغم أنها لا تقل شرعية عن أي شكل من أشكال الإدارة النشطة. يمكن لهذه المعايير أن تنجح في بعض الأحيان، لكنها لا تفلح في غالب الأمر. تعد هذه المعايير مقياساً مفيداً «للجودة» يتخطى مقاييس المخاطر والعائد. كذلك، ثمة حاجة إلى القواعد التنظيمية في هذا الشأن. ولا جدال في أن تحصل كل شركة على نقطة بفضل هذا المقياس. وحينها فقط، سيعلم الناس بجودة ما يشترونه.

وبطبيعة الحال، لا يتمتع التمويل المستدام بأي فرصة للنجاح دون الثقة. ويعني هذا أننا يجب أن نكون واقعيين، وأمناء، وبراغماتيين. ويعني هذا حديثاً أقل شاعرية عن الأشجار، واللجوء عوضاً عن ذلك إلى مزيد من البيانات والحلول المترابطة. لكن، يتعين أولاً على المصرفيين أن يثبتوا لنا أنهم يؤمنون بهذا حقاً.