كاتي مارتن
يواجه المستثمرون الأوروبيون معضلة حقيقية في الفكاك من قبضة الاقتصاد الأمريكي، فهم، طوعاً أو كرهاً، غارقون في أعماقه، ومحافظهم الاستثمارية، سواء الفردية أو المؤسسية، تعج بالأسهم الأمريكية بشكل يتجاوز الحدود المعقولة.
ويضعنا هذا الواقع أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن نعتبر التفوق الحالي للأسهم الأوروبية مجرد انتعاشة عابرة لن تؤدي إلى فك الارتباط المنشود، أو أننا نشهد بداية مسار طويل من التراجع المؤلم للاقتصاد الأمريكي، والمؤشرات كافة ترجح الخيار الثاني بقوة.
لقد باتت النتيجة واضحة للجميع الآن، فقد انهارت القناعة السائدة التي كادت تشكل إجماعاً بين المستثمرين المؤسسيين، بأن الولايات المتحدة ستهيمن على أسواق الأسهم العالمية في 2025.
وقد ثبت أنها كانت في غير محلها، إذ تداعى خطاب النمو الاقتصادي والضرائب المنخفضة ومكافحة البيروقراطية الذي تبنته الرئاسة الثانية لدونالد ترامب تحت وطأة ثقله، وهو ما أفسح المجال للمخاوف من ركود اقتصادي أو تضخم ركودي، فالتعريفات الجمركية المتأرجحة صعوداً وهبوطاً وعمليات التسريح الواسعة للموظفين الفيدراليين باتت تقوض ثقة الشركات والمستهلكين على السواء.
وقد أصابت المستثمرين الأوروبيين صدمة عميقة جراء الكراهية المستفحلة التي تكنها الإدارة الأمريكية لمن يفترض أنهم حلفاء في أوروبا.
وتتفاعل الأسواق وفق المتوقع، حيث يشهد الدولار تراجعاً حاداً، بينما تتفوق الأسواق الأوروبية بشكل ملحوظ على نظيرتها الأمريكية، ومن الضروري إدراك مدى استثنائية هذا الوضع، فمؤشر «داكس» الألماني لم يتفوق على مؤشر «إس آند بي 500» الأمريكي سوى في عامين فقط من أصل 12 عاماً ماضية، ويشير محللو «دويتشه بنك» إلى أنه بالوتيرة الحالية – مع ملاحظة أننا ما زلنا في بداية العام – يتشكل هذا العام ليكون الأفضل من حيث تفوق «داكس» منذ عام 1960، وعلى نحو مماثل، فإن أزمات الدولار باتت مادة للسجلات التاريخية، إذ لم ينخفض بهذا المستوى في هذه المرحلة من العام سوى ست مرات فقط منذ عام 1969.
ويأتي بنك باركليز من بين المؤسسات المالية التي تحذر من الإفراط في الحماس، فوفقاً لمحلليه، يُعد تدفق الأموال إلى الصناديق المركزة على أوروبا كبيراً، غير أنه سيواجه صعوبة في الاستمرار بهذه الوتيرة المتسارعة، وبالمثل، فإن إعلان ألمانيا عن حزمة تحفيز مالي يشير بالفعل إلى معدلات نمو أعلى في أوروبا، لكن التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب من المرجح أن تدفع الأمور في الاتجاه المعاكس، في عملية «شد حبال»، وهو ما يعني أن التقارير التي تتحدث عن نهاية الاستثنائية الأمريكية قد تكون مبالغاً فيها بشكل كبير.
وما نعلمه بالتأكيد هو أن فكرة «الاستثنائية الأوروبية» لا تزال موضوعاً استثمارياً حديث العهد، في حين أن الهيمنة الأمريكية متجذرة بعمق في النظام المالي.
وتكشف بيانات البنك الفيدرالي الأمريكي أن المستثمرين الأوروبيين كانوا يحتفظون بنحو 9 تريليونات دولار في الأسهم الأمريكية بنهاية العام الماضي، أي ما يعادل نحو 17 % من القيمة الإجمالية للسوق الأمريكية، وهو رقم ليس ببعيد عن القيمة السوقية الإجمالية لجميع الأسهم في أوروبا.
ولم يحدث هذا التخصيص الهائل للاستثمارات في الولايات المتحدة من فراغ، بل كان منطقياً من الناحية المالية على المدى الطويل، إذ يشير بول مارش من كلية لندن للأعمال، أحد مؤلفي «كتاب عوائد الاستثمار» الصادر عن بنك «يو بي إس» - والذي يعد مرجعاً أساسياً لخبراء الأسواق المالية - إلى أن دولاراً واحداً تم استثماره في الولايات المتحدة مطلع عام 1900 بلغت قيمته 899 دولاراً بنهاية القرن محسوبة بالقيمة الحقيقية، بينما لم تتجاوز قيمة الدولار نفسه المستثمر في بقية دول العالم 119 دولاراً فقط.
ويكشف الربع الأول من القرن الحادي والعشرين عن فجوة مماثلة، فقد ارتفعت قيمة الدولار المستثمر في الولايات المتحدة مطلع عام 2000 إلى 3.28 دولارات بحلول نهاية عام 2024، بعد احتساب التضخم، بينما لم تتجاوز قيمة الدولار المستثمر في بقية أنحاء العالم 1.63 دولار، وهو رقم متواضع للغاية، وكقاعدة عامة، فإن المستثمرين من خارج الولايات المتحدة الذين أخفقوا في تخصيص حصة كبيرة للسوق الأمريكية لم يؤدوا واجباتهم المهنية بشكل صحيح.
وفي الواقع، كان من الصعب تماماً تجاهل السوق الأمريكية، فمع نهاية العام الماضي، استحوذت 10 أسهم فقط على ما يقرب من ربع إجمالي القيمة السوقية للأسهم المتداولة عالمياً، تسعة منها أمريكية، وتستحوذ الولايات المتحدة على 64 % من قيمة جميع الأسهم العالمية، أو ما يقارب 73 % من أسواق الدول المتقدمة.
وقد يعتقد أي مستثمر يتتبع مؤشراً عالمياً للأسهم مثل «إم إس سي آي جلوبال» أن هذه استراتيجية محايدة، وطريقة بسيطة ومريحة لتحقيق التنويع الاستثماري، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً، فهي طريقة سهلة ومريحة للمراهنة بشكل كبير على الاقتصاد الأمريكي.
وفي تحليله للوضع الحالي، قال البروفيسور بول مارش، خلال إطلاق أحدث إصدار من كتابه السنوي أخيراً: «لقد دافعنا على مر الزمن عن فكرة أن المزايا التنافسية للاقتصاد الأمريكي لا بد أن تكون محتسبة بالكامل في الأسعار الحالية»، لكنه استدرك قائلاً: «هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ستفقد موقعها المهيمن كسوق رئيسي أو ستتخلى عن طابعها الريادي والابتكاري، بل إن كل هذه العوامل الإيجابية يجب أن تنعكس في مستويات الأسعار في مرحلة ما».
ويواجه المستثمرون في مختلف أنحاء العالم انكشافاً هائلاً تجاه السوق الأمريكية، وهو وضع كان مقلقاً بدرجة كافية قبل تولي ترامب فترة رئاسته الثانية، لكنه أصبح الآن محفوفاً بمخاطر أكبر، فرغم صعوبة تجاهل المستثمرين العالميين لشواهد تاريخية تمتد لأكثر من قرن تؤكد أن الاستثمار في الأصول الأمريكية يحقق أفضل المصالح المالية لهم ولعملائهم، فإن تقليص الحصص الاستثمارية في أمريكا ترامب بات ضرورة ملحة لإدارة المخاطر في المرحلة الراهنة.
ويمكن لتريليونات الدولارات من الاستثمارات أن تتدفق خارج الولايات المتحدة إذا قررت بقية دول العالم العودة إلى موقف أكثر توازناً، غير أن السؤال يبقى حول مدى قدرة الأسواق العالمية الأخرى على استيعاب هذه الأموال الضخمة. لذلك، في تعليق ساخر على هذا الوضع، نشر ترامب على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، أثناء شرحه لإحدى مجموعات التعريفات الجمركية التي فرضها، عبارة: «استمتعوا!»