محمد العريان
«أخبرني فقط كيف ستنتهي الأمور!» سؤال يتردد في أذهان الكثيرين، في ظلّ تحوّل جذري في الاقتصاد العالمي يتجاوز بكثير إعلان الرسوم الجمركية الأمريكية الذي يُثير صدمة في الأسواق والشركات العالمية حالياً، ويمكن اعتباره تغييراً جذرياً في آلية عمل الأمور: هيكلي، ومُزمن، ومنهجي.
يمثل ما حدث تحوّلاً جذرياً في السياسة، في وقتٍ تُصبح فيه العديد من الاقتصادات الوطنية عُرضةً لقوى خارجية مُعقدة بشكلٍ غير مُعتاد، فالدور العالمي المُهمّ لأمريكا، الذي كان يوماً ما مُرتكزاً رئيسياً، لا يتغير فحسب بما يتجاوز ما كان مُعظم الرؤساء التنفيذيين والمستثمرين يُتوقع حدوثه، بل من المُؤكد أنه سيحفز سلوكاً مُقلقاً مُماثلاً من جانب الدول الأخرى.
وفي غضون أسابيع قليلة، أصبحت الولايات المتحدة، التي كانت تُعتبر في السابق المُحرّك الموثوق للاقتصاد العالمي بفضل «استثنائيتها»، عُرضةً لمخاوف مُتزايدة بشأن «الركود التضخمي» - وهو مزيجٌ مُقلقٌ من تباطؤ النمو وارتفاع التضخم.
وبدلاً من التركيز على مناقشة الابتكارات المثيرة التي تعزز الإنتاجية، تشعر الحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم بالقلق إزاء التصعيد المتبادل للتعريفات الجمركية، وتعطيل الحوكمة التقليدية، والتحدي المتمثل في تمويل المزيد من الدفاع في عصر بات أقل أمنا بكثير.
وفي حين يتفاوت مدى المساحة المتاحة للدول لتعديل سياساتها واستراتيجياتها، إلا أن مساحة المناورة محدودة، إذ تصبح المرونة المالية مقيدة بارتفاع مستوى الدين والعجز. كما تتراجع الثقة بشكل كبير في قدرة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على خفض أسعار الفائدة لدعم النمو غير التضخمي.
وتنعكس هذه القضايا بشكل متزايد في استطلاعات رأي الشركات والأفراد، وكذلك في الأسواق المالية. فقد انخفضت ثقة الشركات والأسر الأمريكية، بينما ارتفعت توقعات التضخم على المدى الطويل إلى مستوى لم تشهده منذ أكثر من ثلاثة عقود.
وأنهى كل من مؤشري ستاندرد آند بورز وناسداك الربع الأول بانخفاضات حادة، وارتفع سعر الذهب، الملاذ الآمن التقليدي، من مستوى قياسي إلى آخر.
ويعتبر الأداء الضعيف للأسهم الأمريكية مقارنةً بنظيراتها الأوروبية أمراً مذهلاً. وبينما تخشى الأسواق من فقدان الاستثنائية الاقتصادية الأمريكية، فإن أوروبا على وشك التحول الاقتصادي مع استجابة ألمانيا لـ«لحظة سبوتنيك» الخاصة بها، مستفيدة من حيّزها المالي الأكبر نسبياً.
وبغض النظر عن العجز الهيكلي الطويل الأمد، فقد احتضن المستثمرون فجأة احتمالات قيام أكبر اقتصاد في أوروبا بقيادة عملية على مستوى القارة لزيادة الإنفاق على الدفاع والبنية الأساسية، فضلاً عن بذل جهود أكثر جدية لسد فجوة الابتكار مع الصين والولايات المتحدة.
وهناك اتفاق بين الغالبية على أن رحلة الاقتصاد العالمي المباشرة ستكون أكثر وعورة، لكن من الصعب التنبؤ إلى أين يتجه كل هذا. وفي الواقع، حاولتُ مؤخراً القيام بذلك، مستفيداً من الحكمة الجماعية للعديد من الاقتصاديين ومحللي السوق الذين أحترمهم.
وللوصول إلى وضوح أكبر حددتُ وجهتين: إحداهما عملية إعادة صياغة على غرار ريغان-تاتشر من خلال عملية تدمير إبداعي، مما يؤدي إلى اقتصادات أكثر كفاءة، وقطاعات حكومية أكثر انسيابية، ونمو عالمي أكثر توازناً، ونظام تجاري أكثر عدالة. وباختصار، بلوغ وضع أكثر ملاءمة لاستغلال وعود الإنتاجية التي توفرها الابتكارات المثيرة في الذكاء الاصطناعي والروبوتات وعلوم الحياة وغيرها.
السيناريو الآخر هو انكسار العلاقات الاقتصادية والمالية الحرجة بدلاً من أن تُعاد صياغتها، فديناميكيات الركود التضخمي المشابهة لتلك التي شوهدت في الولايات المتحدة في عهد جيمي كارتر تصبح أكثر تعقيداً في إزالتها.
ويصبح تسليح التجارة والتمويل الدوليين على غرار إفقار الجار هو القاعدة وليس الاستثناء. وبدون أزمة عميقة تهدد بركود عالمي يستمر لسنوات عديدة، فإن الآفاق ضئيلة للغاية لتنسيق السياسات الدولية اللازم لمعالجة التحديات المشتركة، مثل القضايا البيئية ومعايير الابتكار.
ولم تكن هناك مجموعة من الإجابات عندما أبدى زملائي آراءهم حول احتمالات هذين السيناريوهين. وبدلاً من ذلك، تراوح الأمر بين 20 / 80 في النسب المئوية النسبية. وللأسف، فإن هذا الأمر واقعي.
حيث تواجه الاقتصادات الغربية تغييراً هائلاً في النظام يستغرق سنوات عديدة في تطوره. ومن المرجح أن تكون الآثار، وإن كانت غير مؤكدة، بعيدة المدى.
وبدلاً من انتظار الوضوح والأمل في عودة الأمور إلى وضعها الطبيعي، يجب على الشركات والحكومات في جميع أنحاء العالم أن تتقبل أنها تعمل الآن في اقتصاد عالمي يمضي في رحلة وعرة إلى وجهة مجهولة.
وللازدهار في عالم من التغييرات الهيكلية التي تستمر لسنوات عديدة، فإنها تحتاج إلى التعامل مع عدم اليقين والتقلبات بدلاً من أن تشلّها؛ وهي بحاجة إلى تبني درجة من المرونة وخفة الحركة قد تتجاوز بكثير ما اعتادت عليه. وعموماً، لا توجد إجابات مشتركة ولا حل بسيط. إنه بالفعل عالم جديد.. عالم مقلق للغاية.
رئيس كلية «كوينز» بجامعة «كامبريدج» ومستشار لمؤسستي «أليانز» و«غراميرسي»