في مواجهة تصاعد الرسوم الجمركية، يبرز مفهوم «إزالة العولمة» كرد فعل محتمل، لكن مفهوم «التحول إلى الرقمنة» يقدم بديلاً أكثر فعالية.
فنحن نرى بالفعل استبدال المنتجات المادية بنظيراتها الرقمية: خدمات البث الرقمي تحل محل أقراص الفيديو الرقمية، والأطفال يستمتعون بألعاب مثل «روبلوكس» بدلاً من تجميع الدمى، وتحديثات الهواتف الذكية والسيارات الرقمية تفوق شراء النسخ الجديدة.
والأهم من ذلك، أن تسليم المنتجات عبر الإنترنت، بدلاً من شحنها بحراً، يعني أن الرسوم الجمركية التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في «يوم التحرير» لا تنطبق على هذه التعاملات، على الأقل بقدر ما يمكن التأكد منه حالياً.
هذا ما يجعل شركة «إس إيه بي» الألمانية، التي تفوقت أخيراً على «نوفو نورديسك» الدنماركية لتصبح الشركة الأعلى قيمة سوقية في أوروبا، خياراً مميزاً نسبياً للمستثمرين. فمثلها مثل نظيراتها في قطاع البرمجيات، تتمتع «إس إيه بي» بإيرادات مرتفعة متكررة، وتستهدف نمواً في أرباح التشغيل يتراوح بين 26 و30% خلال العام الجاري.
ومع ذلك، لا يتوقع أحد أن يتمتع بحصانة مطلقة، فتباطؤ النمو الاقتصادي -إذا ما استمر أصلاً- من شأنه تقويض الطلب في مختلف القطاعات.
وقد لا تكون البرمجيات البند الأول الذي سيسعى العملاء الصناعيون الذين يواجهون صعوبات مالية إلى خفض نفقاته.
ولكن مع مرور الوقت، ستتأثر أرباح الشركات التي تقدم هذه الخدمات تبعاً لأداء القطاعات التي تخدمها.
وعلى هذا الأساس، فإن شركات مثل «داسو سيستمز» الفرنسية، و«كابجيميناي»، و«هكساجون» السويدية، التي تعتمد بدرجة أكبر على قطاع صناعة السيارات، قد تتأثر بشكل أكبر.
أما «كيدنس» و«سينوبسيس»، اللتان تركزان بشكل أكبر على قطاع أشباه الموصلات الذي يشهد إعفاء مؤقتاً (حالياً) من بعض القيود، فقد تستفيدان من الطلب القوي على برمجياتهما التي لا غنى عنها لهذا القطاع.
وإلى جانب قطاع البرمجيات، تبرز الطباعة ثلاثية الأبعاد، أو ما يُعرف بـ«التصنيع الإضافي»، كأحد المستفيدين المحتملين الآخرين في عالم مثقل بالرسوم الجمركية.
فحتى المنتجات المادية بطبيعتها، بدءاً من الأطراف الصناعية، وصولاً إلى الصواريخ التي يبلغ ارتفاعها 100 قدم، يمكن أن تبدأ حياتها كمخطط رقمي يُنقل عبر الإنترنت إلى طابعة، تقوم بعد ذلك ببنائه طبقة تلو الأخرى.
وتستخدم شركة «بي إيه إي سيستمز» الطباعة ثلاثية الأبعاد في بناء طائراتها القتالية «تمبست»، كما تطمح دبي إلى أن تشيد ربع مبانيها بهذه الطريقة بحلول عام 2030.
ورغم أن التصنيع الإضافي شهد انطلاقة أبطأ مما توقعه المحللون المتفائلون في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشري، يرى الخبير الاقتصادي جيريمي ريفكين أن الرسوم الجمركية قد تجعل الوقت مناسباً لازدهار هذه التقنية.
فهناك العديد من المزايا، إذ انخفضت التكاليف، وأصبح التخصيص حسب الطلب أكثر سهولة، ويمكن توافر المكونات في الموقع في غضون لحظات، وهو ما يمثل عامل جذب لشركات مثل شركة النفط والغاز الكبرى «شل» والتي تستخدم الطباعة ثلاثية الأبعاد لإنتاج قطع الغيار عند الحاجة.
كما تستخدم شركة «إيرباص» رأساً حاقناً مصنوعاً بالطباعة ثلاثية الأبعاد في برنامجها الصاروخي «أريان» وقد سمح لها ذلك بتقليص عدد الأجزاء المكونة له من 248 جزءاً في السابق إلى جزء واحد فقط.
أما العوائق التي واجهها القطاع سابقاً فقد ارتبطت بقدرات محدودة، سواء من حيث أداء الطابعات أو المواد المستخدمة في تحويل المخططات إلى مجسمات.
كما أن العملاء الأصغر حجماً، الذين يفتقرون إلى القدرات البشرية المتوفرة لدى شركات الدفاع الكبرى، يعتمدون بدرجة أكبر على مُصنعي الطابعات للحصول على حلول مخصصة وخبرة فنية.
وهكذا، فإنه في عصر تتزايد فيه تكاليف شحن البضائع المادية، قد تتمكن المنتجات غير الملموسة من تحقيق تقدم ملموس على أرض الواقع.