أورين كاس محرر مساهم في صحيفة فاينانشال تايمز وكبير الاقتصاديين في مؤسسة «أمريكان كومباس»، ومحرر نشرة «فهم أمريكا» الإخبارية
في عالم متعدد الأقطاب تتبخر الضمانات الأمنية الأمريكية وتتلاشى وعود الأسواق المفتوحة
لم يعد خافياً على أحد، في هذه المرحلة، نية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تقويض النظام الاقتصادي الدولي الذي شجعته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. رغم ذلك، يبقى الغموض يكتنف البديل المحتمل لهذا النظام. لقد قدمت تصريحات الإدارة الأمريكية بعض المؤشرات حول الملامح المحتملة لتحالف اقتصادي وأمني جديد تقوده الولايات المتحدة، لكن السؤال الأكبر الذي لا يزال مطروحاً يتعلق بموقف أوروبا.
في فبراير الماضي، طرح وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو رؤية تعد مفتاحاً أساسياً لفهم توجهات إدارة ترامب، إذ أوضح أن «هيمنة قوة واحدة على العالم ليست الوضع الطبيعي، بل كانت حالة استثنائية نتجت عن نهاية الحرب الباردة، ومن الطبيعي أن نشهد عودة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب».
ويمثل انتهاء عصر الهيمنة الأمريكية الركيزة الأساسية لفكر «اليمين الجديد» الذي يتزايد نفوذه في دوائر صنع القرار الأمريكية، وهو ما عبر عنه إلبريدج كولبي، الذي حظي هذا الأسبوع بمصادقة على تعيينه رئيساً للسياسات في البنتاغون، حين كتب عام 2021: «على مدار الجيل الماضي، احتكرت دولة واحدة القوة العسكرية المطلقة وأخضعت النظام المالي العالمي لمصالحها»، مضيفاً إنه بالنسبة للدول الحليفة، «كانت الوصاية الأمريكية سهلة، وكان عبؤها خفيفاً - لا سيما عند مقارنتها بأي قوى مهيمنة أخرى عبر التاريخ، لكن هذه الحقبة انتهت الآن».
وفي ظل هذا العالم متعدد الأقطاب الذي سيخلف «النظام العالمي الليبرالي» لفترة ما بعد الحرب الباردة، ستتولى الولايات المتحدة قيادة تحالف اقتصادي وأمني يرتكز على القوى الديمقراطية ذات الاقتصادات السوقية الكبرى، مع الاعتراف للصين بنطاق نفوذ خاص بها. غير أن الانضمام إلى هذا التكتل الأمريكي سيكون مشروطاً بالالتزام بمتطلبات محددة، في مقدمتها تحقيق توازن تجاري يضمن عدم تسجيل أي طرف فوائض ضخمة أو عجوزات على حساب الآخرين، وأن يتحمل كل عضو المسؤولية الرئيسية في تأمين حماية نفسه، فضلاً عن التعهد الجماعي بإقصاء الصين من أسواقهم.
تبدو هذه الصفقة منصفة ينبغي لأي ديمقراطية سوقية أن تفضلها على الانجذاب نحو المدار الصيني، حيث ستشكل المكسيك وكندا - اللتان تلقتا الموجة الأولى من الضغوط الأمريكية وتخوضان الآن مفاوضات متسارعة لإعادة صياغة اتفاقية التجارة لأمريكا الشمالية - عناصر محورية في هذا التحالف إلى جانب واشنطن، بينما تظهر اليابان والهند، بوصفهما المنافسين الإقليميين الرئيسيين للصين، كمرشحين طبيعيين للانضمام، وقد صرح وزير التجارة الهندي بالفعل بأن المحادثات مع واشنطن «تمضي في الاتجاه الصحيح»، فيما تبدو اليابان مستعدة لتصدر قائمة الدول المقبلة على طاولة المفاوضات.
لكن ماذا عن أوروبا؟ وهنا، الحديث عن أوروبا يعني بالأساس ألمانيا. فلمعالجة الخلل التجاري، يجب على برلين هجر نموذجها الاقتصادي المعتمد على التصدير، والرضوخ لضرورة تنشيط الاستهلاك الداخلي، وتكثيف مشترياتها من المنتجات الأمريكية، ودفع شركاتها لإقامة مشاريع على الأراضي الأمريكية، وهي مطالب تأتي في وقت يرزح فيه الاقتصاد الألماني تحت وطأة الركود منذ 2023. كما أن برلين مطالبة أيضاً بالنهوض بالقدرات العسكرية للقارة ومواجهة روسيا. ورغم كل ما أطلقته ألمانيا من تصريحات مدوية بشأن أوكرانيا، فإن الجيش الألماني اليوم أضعف من حيث الجاهزية القتالية مما كان عليه، بل ويشهد تقلصاً مستمراً.
وفي مواجهة المنافسة الصينية، أظهرت شركات صناعة السيارات الألمانية موقفاً مناهضاً لأية إجراءات حمائية، خشية أن تلحق الإجراءات الانتقامية الصينية ضرراً بأرباحها على المدى القصير، بل ذهبت لأبعد من ذلك بتشجيع الشركات الصينية على توطين صناعاتها داخل الأراضي الأوروبية، ما أدى لتحول مثير تمثل في امتلاك الصين 20 % من أسهم العملاق الألماني «مرسيدس».
تنطلق الاستراتيجية الأمريكية من قناعة بأن حلفاءها الرئيسيين سيفضلون شراكتها على التماهي مع بكين، حتى في ظل ترتيبات جديدة تفرض عليهم التزامات أكبر. وفي معظم الحالات، يبدو هذا الرهان في محله، غير أن المعادلة تبدو أكثر تعقيداً مع القارة العجوز. فمن التراجع السكاني وسياسات الطاقة المدمرة ذاتياً، إلى أزمة شرعية النظم الديمقراطية وتراجع القدرة على الابتكار التكنولوجي، تشهد أوروبا هبوطاً حاداً في قيمتها الاستراتيجية ونفوذها الدولي، بالتوازي مع انحسار استعدادها لمواجهة الخيارات الصعبة، وتقديم التضحيات المطلوبة ومقاومة إغراء التقارب مع السوق الصينية.
وقد جسد نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس هذه المخاوف في تصريحاته المثيرة للجدل أمام مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير الماضي، قائلاً بنبرة أسف: «حين أتأمل أوروبا اليوم، يصعب إيجاد تفسير لما آل إليه حال بعض المنتصرين في الحرب الباردة». وفي خطوة تصعيدية، وجه وزير الخزانة سكوت بيسنت، يوم الأربعاء، تحذيراً شديد اللهجة للقيادات الأوروبية مفاده أن الانحياز للصين «يعني أن تذبحوا أنفسكم بأيديكم». لكن يبدو أن تلك التحذيرات لم تلق آذاناً صاغية، إذ شرع الاتحاد الأوروبي في اليوم التالي مباشرة بمناقشة خفض الحواجز أمام السيارات الكهربائية الصينية.
السؤال المصيري الآن: إذا وضعت واشنطن أوروبا أمام اختبار حاسم، فهل ستنجح فيه؟ وإذا راهنت أوروبا على أن التهديدات الأمريكية مجرد مناورة فارغة، فهل سينسحب الأمريكيون فعلاً من التحالف التاريخي؟ ما هو مؤكد أن اختيار أوروبا للصين سيكتب نهاية مسارها الاستراتيجي ويكرس تراجعها المستمر.