بنما تبحث عن حوافز إيجابية بديلاً للتهديدات الأمريكية

استغرق تسوية مستقبل أحد أكثر الممرات المائية أهمية من الناحية الاستراتيجية في العالم أربعة عقود من الدبلوماسية الأمريكية في القرن الماضي. واستغرق طرح مسألة الاستيلاء عليه مرة أخرى من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بضعة أسابيع قصيرة.

تأرجحت تصريحات الرئيس الأمريكي المدوية بشأن قناة بنما بين «وجود جنود صينيين يديرون الممر المائي بصورة غير مشروعة» (وهي مزاعم باطلة)، والتلويح بإمكانية اجتياح أمريكي لاستعادة السيطرة على المنشأة التي شيدتها واشنطن سابقاً (تهديد مقلق وإن كان مستبعد الحدوث). وعلى غرار تصريحات الرئيس الأمريكي حول تعريفات التجارة أو جرينلاند، فقد بدا أنه تم تصميم هذه التصريحات لترهيب الطرف الآخر ودفعه نحو طاولة المفاوضات.

غير أن الخطاب المتضخم بشأن بنما ينطوي على نواة من الحقيقة: حليف أمريكي وثيق يسيطر على ممر مائي حيوي يمر عبره 40 % من حركة الحاويات الأمريكية، انزلق تدريجياً نحو فلك الصين.

وخلال العقد المنصرم، نجحت بكين في انتزاع تحالف بنما دبلوماسياً مع تايوان، وضمها إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية للبنية التحتية، وتقديم تدريبات لقوات الأمن البنمية، والفوز بعقود مشاريع بنى تحتية رمزية. كما تتولى شركة من هونغ كونغ، «سي كي هاتشيسون»، تشغيل موانئ عند طرفي القناة - وهو أمر تعتبره إدارة ترامب تهديداً أمنياً محتملاً.

وبوصفه رئيساً لدولة صغيرة يقطنها 4.5 ملايين نسمة وتفتقر إلى جيش وتحمل تاريخاً طويلاً من التدخلات الأمريكية، لم يكن أمام الرئيس البنمي الموالي لواشنطن خوسيه راؤول مولينو سوى كظم غيظه والانخراط في مفاوضات مع الإدارة الأمريكية.

وقد أفضى الاتفاق المبرم الأسبوع الماضي مع وزير الدفاع الأمريكي الزائر بيت هيغسيث إلى تعاون عسكري وثيق، يشمل نشر قوات أمريكية في قواعد بنمية، فيما يجري وضع آلية لتعويض الولايات المتحدة عن رسوم العبور المفروضة على سفنها الحربية، وأعلنت بنما انسحابها من مبادرة الحزام والطريق.

بالتوازي مع ذلك، أصدرت بنما تقريراً من مدققي حساباتها كشف - في توقيت مريب - عن مخالفات «مزعومة» ارتكبتها شركة «هاتشيسون»، ما يمهد الطريق لإلغاء امتيازات موانئها.

ويقول التقرير أن الشركة أخفقت في الحصول على الموافقات اللازمة لتمديد العقد وتدين بملايين الدولارات كمستحقات (وهي ادعاءات تنفيها هاتشيسون بشدة).

ومن شأن هذا النزاع أن يعرقل صفقة عالمية بقيمة 19 مليار دولار لبيع موانئ هاتشيسون إلى تحالف بقيادة شركة «بلاك روك» الأمريكية - وهي الصفقة التي أثارت غضب بكين بعدما روج لها ترامب باعتبارها استعادة للقناة.

ويستحق الرئيس مولينو الثناء على دبلوماسيته المحنكة، فقد أصر علانية على ضرورة احترام السيادة البنمية، فيما عمل خلف الأبواب المغلقة على التفاوض بشأن تغييرات تم تصميمها لتبديد هواجس ترامب. غير أن الخطر يكمن، في هذه المرحلة، من احتمال مبالغة واشنطن في استخدام نفوذها داخل دولة تربطها بها علاقات تاريخية طويلة ومعقدة، ما قد يقوض موقف الرئيس الذي تم انتزاع تنازلات مهمة منه بالفعل.

وبدأت مفاوضات مستقبل قناة بنما عام 1964 في أعقاب إطلاق القوات الأمريكية النار على نحو 22 بنميا وقتلهم خلال احتجاجات، وانتهت بنقل السيطرة على القناة تدريجياً إلى الإدارة البنمية الكاملة بحلول عام 2000.

واستمرت تلك العملية رغم التدخل العسكري الأمريكي عام 1989، الذي أودى بحياة عدة مئات من المواطنين البنميين. وقد نصح هنري كيسنجر، بصفته وزيراً للخارجية آنذاك، الرئيس جيرالد فورد في سبعينيات القرن الماضي بأن استمرار السيطرة الأمريكية على القناة «يبدو وكأنه استعمار صريح» - وهو تحذير لا يزال صداه متردداً إلى اليوم.

إن ممارسة التنمر على الدول الصغيرة قد تنطوي على عواقب وخيمة غير مقصودة. فقد أثارت تكتيكات ترامب «العدوانية» قلقاً عميقاً في دولة كانت تاريخياً موالية لأمريكا. وبعد أن لوحت واشنطن بعصا غليظة لانتزاع التنازلات التي سعت إليها، ينبغي عليها الآن تقديم حوافز إيجابية لبنما، مثل ضخ استثمارات واسعة النطاق في البنية التحتية أو تعزيز العلاقات التجارية.

وإلا فإنها تجازف بإثارة رد فعل عكسي، قد يقوض واحداً من المراكز المزدهرة للنظام الرأسمالي ويدفعه نحو تبني الاشتراكية المناهضة للولايات المتحدة. وتقدم كل من كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا أمثلة صارخة على ما يمكن أن تؤول إليه الأمور حين تسلك المسار الخاطئ.