سيمون كوبر
لطالما استقطبت أمريكا المهاجرين الأوروبيين عبر التاريخ، لكن ماذا إن انعكس هذا التيار؟ أظهر استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب زيادة غير مسبوقة في عدد الأمريكيين الذين يرغبون في الهجرة من الولايات المتحدة، إذ ارتفعت نسبتهم من 10% عام 2011 إلى 21% في العام الماضي،.
وذلك قبل أن يشن دونالد ترامب حملته، التي تستهدف الثروة والحريات الأمريكية على حد سواء.أنا أعيش بمشاعري بين ضفتي الأطلسي، فقد كنت طالباً بريطانياً في الولايات المتحدة بداية التسعينيات، حيث ترسخت قناعتي بأنها بلد الأحلام والإمكانات اللامحدودة.
وقد جمعتني الأقدار بزوجة أمريكية، وأنجبت منها أطفالاً، غير أن رياح الحياة ألقت بنا في نهاية المطاف على شواطئ العاصمة الفرنسية باريس. وعبر سنوات طويلة من التنقل بين القارتين، رصدت عن كثب تحولات حياة أصدقائي وأقاربي الأمريكيين.
وأنا أشعر الآن إذا نحينا جانباً المعضلات الكبرى المرتبطة بترامب والحريات بأن المواطن الأوروبي العادي ينعم بجودة حياة تفوق نظيره الأمريكي.
هناك استثناء واحد كبير: أصحاب الثروات الطائلة. إذا كنت من أثرياء الولايات المتحدة الذين ينتظرون تخفيضاً ضريبياً جديداً من الكونغرس، فتهانينا لك: إدارة ترامب على الأقل تحاول إدارة البلاد لمصلحتك.
لكن من غير المرجح أن تحصل على ذلك من الحكومات الأوروبية. وبالمثل سيجد معظم الأمريكيين في قطاعي التكنولوجيا أو التمويل أن أوروبا غير ديناميكية ومحبطة.
هذا الواقع يضع نحو 99% من الأمريكيين في خانة المستفيدين المحتملين من الهجرة إلى أوروبا، وتتصدر الشريحة العمرية تحت سن الـ35 قائمة المستفيدين، فهؤلاء الشباب يواجهون عجزاً حقيقياً في امتلاك مسكن أو توفير رعاية لأطفالهم في المدن الأمريكية الكبرى، ولا يزال لديهم من المرونة ما يكفي لتعلم لغة جديدة، وبناء علاقات اجتماعية في محيطهم الجديد.
وباتت متطلبات الهجرة أسهل من أي وقت مضى، كما أتاح العمل عن بعد خياراً جذاباً يتمثل في تقاضي راتب أمريكي مع العيش في أجواء المتوسط، وأسهمت التكنولوجيا في تخفيف وطأة الاغتراب، إذ أصبح بالإمكان مغادرة البلاد دون مغادرة مجموعات «واتساب»، أما اللغة فقد أصبحت الإنجليزية كافية للتواصل في معظم أنحاء أوروبا.
وفي حين تضع أوروبا قيوداً صارمة أمام القادمين من الدول الفقيرة فإنها تبقي الباب مفتوحاً دائماً للأمريكيين، حتى إن دولاً مثل البرتغال وهولندا إقامة لمن لا يستطيعون حتى الحصول على قرض سيارة في الولايات المتحدة.
وما إن تستقر في الضفة الأوروبية حتى تدرك أن راتبك قد يتقلص، لكن تكاليف معيشتك ستنخفض بشكل ملموس وحتمي، فوفقاً لتقديرات البنك الدولي فإن متوسط دخل الفرد في منطقة اليورو يعادل ثلاثة أرباع نظيره الأمريكي بعد تعديل القوة الشرائية.
وإذا كان الأمريكيون المهاجرون إلى أوروبا سيضطرون للتقشف في استهلاك السلع التجارية فإنهم في المقابل سينعمون بالقدرة على تحمل تكاليف الاحتياجات الأساسية من سكن وتعليم ورعاية صحية،.
حيث تشير بيانات مؤسسة «كايزر فاميلي فاونديشن» إلى أن متوسط قسط التأمين الصحي للعائلة في الولايات المتحدة يصل إلى 25,572 دولاراً، وهو ما يتجاوز متوسط الأجور، بعد خصم الضرائب في معظم الدول الأوروبية.
حتى تكلفة الترفيه هنا تقل بشكل لافت، فقد نظمت إحدى المنظمات الدولية التي أعرفها لقاء، جمعت فيه فروعها الوطنية على مائدة عشاء في مدريد، وعندما حانت لحظة دفع الفاتورة أصابت الصدمة المشاركين الأمريكيين لدرجة دفعتهم لالتقاط صور للفاتورة، معلنين عزمهم تأطيرها وتعليقها في مكتب المنظمة بواشنطن.
غير أن الانتقال إلى أوروبا يفرض تكلفة معنوية فورية على الأمريكيين الطموحين، إذ يجدون أنفسهم خارج دائرة الضوء في بلدهم الأصلي، فمهما حققوا من إنجازات مهنية هنا فلن تحظى بتقدير المتشبثين بالنظرة النمطية لأوروبا كمجرد وجهة سياحية. في المقابل تطغى المكاسب النفسية على هذه الخسارة.
فالحياة في أمريكا أشبه بإدارة شركة تأمين صغيرة خاصة، تستنزف طاقتك في وضع ميزانيات دائمة للأمراض المستقبلية والرسوم الدراسية وغيرها من الاحتياجات، بينما تتكفل «دولة الرعاية» الأوروبية بهذه الهموم، ما يوفر قدراً ملموساً من الراحة النفسية.
كما ستنعم بوقت فراغ أكبر، في ظل نظام عمل يقل بمعدل ساعة يومية عن نظيره الأمريكي، وبدلاً من دوامة المقارنة المرهقة مع من هم أكثر ثراء، قد تجد نفسك الشخص الأكثر ثراء في محيطك الاجتماعي الجديد.
ورغم حدة الاستقطاب السياسي في أوروبا فإن الصراع النفسي اليومي هنا لا يرقى لمستواه في أمريكا ترامب، حيث يروي لي صديق أوروبي يقطن الجنوب الأمريكي كيف يضطر أحياناً للبقاء في منزله أياما متتالية لتجنب الاحتكاك بمؤيدي ترامب.
ودائما ماً يفترض الأمريكيون أنه هاجر إليهم بحثاً عن حياة أفضل، ليرد عليهم بالنفي قائلاً: «جئتكم لوظيفة مثيرة لاهتمامي، مقابل قبولي بجودة حياة أدنى».
وتمثل الهجرة إلى أوروبا أيضاً استراتيجية صحية فعالة، فالنمط الأمريكي للحياة - الذي يتمحور حول السيارة، ويتسم بفرط العمل والاعتماد على الأغذية المصنعة - يشكل اعتداء يومياً على الجسد، حيث يصل معدل السمنة في الولايات المتحدة إلى 42.9%، أي ما يعادل أربعة أضعاف نظيره في فرنسا.
بالمجمل، وكما سبق أن أوضحت، تتفوق أوروبا على الولايات المتحدة في المؤشرات الثلاثة الرئيسية لجودة الحياة في القرن الحادي والعشرين، إذ تتمتع بأربع سنوات إضافية في متوسط العمر المتوقع.
ومستويات أعلى من السعادة التي تم الإبلاغ عنها ذاتياً، وانخفاض انبعاثات الكربون للفرد إلى أقل من النصف، وكل ذلك مع الحفاظ على نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي أقل بكثير.
«للأسف، الحلم الأمريكي قد مات»، هكذا أعلن ترامب عام 2015، بعد نزوله على السلم المتحرك الذهبي في برجه الشهير إيذاناً بإطلاق حملته الرئاسية، فلعل الوقت قد حان لتجربة الحلم الأوروبي بديلاً.