خريطة اقتصادية جديدة في زمن «التعريفات المرتفعة»

روشير شارما - رئيس مجلس إدارة شركة «روكفلر إنترناشيونال»

لم ينقشع غبار الحرب التجارية بعد، وقد لا يهدأ أبداً في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلا أنه لا عودة إلى عالم التعريفات الجمركية المنخفضة الذي تقوده أمريكا في معظم حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فمن المتوقع أن يستقر متوسط الرسوم الجمركية الأمريكية الفعلي فوق 10%، وهو ارتفاع كبير مقارنة بالمعدل السائد حتى العام الماضي البالغ 2.5%. لذا من الضروري البدء برسم خريطة العالم الجديد ذي التعريفات الجمركية المرتفعة.

لقد خلق الهجوم التجاري الأمريكي بالفعل ما يكفي من الشكوك بين الشركات المحلية والمستثمرين العالميين لتغيير جذري في سلاسل التوريد وتدفقات رأس المال المستقرة منذ عقود طويلة.

ويبدو أن الخاسر الأكبر سيكون شركات الأعمال الأمريكية متعددة الجنسيات، فمع انخفاض الحواجز أمام التجارة ورأس المال في العقود الأخيرة، ازدادت أرباح الشركات الأمريكية في الخارج بوتيرة أسرع بكثير من أرباحها في الداخل. وظلت هوامش أرباح شركات مؤشر S&P 500 ثابتة منذ الستينيات. ثم تضاعفت الهوامش تقريباً إلى نحو 3 بالمائة بعد عام 2000، بالتزامن مع دخول الصين منظمة التجارة العالمية.

ونجحت شركات أمريكية عملاقة عديدة في تحقيق أرباح «خارقة» تتجاوز بكثير ما حققه منافسوها في العالم المتقدم، من خلال الاستفادة من جاذبية العلامات التجارية الأمريكية ونقل الإنتاج إلى الدول ذات التكاليف المنخفضة. واليوم، تحقق الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات أكثر من 40 % من عائداتها من الأسواق الخارجية، وكان المصنعون هم الأكثر ربحاً، حيث يدفعون لعمالهم في الخارج أجوراً تقل بنسبة 60 %عما يتقاضاه نظراؤهم في الولايات المتحدة.

أما الآن، فستتردد الشركات الأمريكية كثيراً قبل إقامة مصانع جديدة خارج البلاد، ولن تخضع قراراتها للمنطق التقليدي المتمثل في تعظيم الربحية، وستواجه الشركات الكبرى متعددة الجنسيات على وجه الخصوص ضغوطاً مستمرة على هوامش أرباحها.

وفي خضم الغضب المتصاعد من التعريفات الجمركية، بات شعار «صنع في أمريكا» يثير جدلاً أكثر مما يجذب مستهلكين، فثلثا الألمان يقولون إنهم يتجنبون المنتجات الأمريكية، بينما ينظم نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي حملات مقاطعة في السويد وفرنسا، ولا توجد دولة أكثر غضباً من كندا، حيث بدأ المستهلكون الكنديون باستبدال المشروبات الأمريكية باليابانية، وإلغاء اشتراكاتهم في خدمات البث الأمريكية، بل إلغاء رحلاتهم السياحية إلى جارتهم الجنوبية.

ومن الصعب تخيل سيناريو تفوز فيه الولايات المتحدة في حروب التعريفات الجمركية، وحتى إن حققت بعض المكاسب المرحلية كزيادة فرص العمل في القطاع الصناعي أو معاقبة شركاء تجاريين تزعم أنهم غير منصفين، ذلك أن الأضرار الناجمة عن ارتفاع الأسعار وتراجع الكفاءة الاقتصادية والضرر الذي سيلحق بمصداقية واشنطن في صنع السياسات سيفوق أي فوائد محتملة.

وقد بدأت الدوائر الاستثمارية التي طالما انبهرت بمعدلات النمو والربحية الاستثنائية لعمالقة الشركات الأمريكية تستفيق على حقيقة المخاطر الكامنة في تركيز رؤوس الأموال بهذا القدر في اقتصاد واحد، فبعد أن استأثرت الأسواق الأمريكية بنحو 80% من التدفقات العالمية لأسواق الأسهم خلال سنوات هذا العقد، بدأت البوصلة تتجه نحو وجهات بديلة، إذ يعمل المستثمرون حول العالم على خفض انكشافهم على السوق الأمريكية بوتيرة متسارعة.

أما الرابحون المحتملون من هذه التحولات فقد يكونون من الاقتصادات الناشئة مثل الهند والبرازيل التي تتمتع بأسواق محلية ضخمة تشكل 70% أو أكثر من ناتجها المحلي الإجمالي، ما يمنحها حصانة نسبية ضد تقلبات الحروب التجارية، في حين تسعى قوى متنافسة تاريخياً للتكتل دفاعاً عن نموذج النمو القائم على التصدير الذي أثبت نجاحه في جلب الرخاء لمناطق مثل شرقي آسيا، حيث تتباحث اليابان مع كوريا الجنوبية والصين بشأن موقف موحد من تعريفات ترامب، بينما تتجه الصين والهند نحو تنسيق جهودهما لمواجهة الضغوط الأمريكية.

وفي أمريكا اللاتينية، تتخلى البرازيل عن رداء الحمائية التجارية وتدفع باتجاه إبرام اتفاقية جديدة مع الاتحاد الأوروبي وتعزيز الروابط التجارية مع الصين، التي بادرت مؤخراً لشراء كميات غير مسبوقة من فول الصويا البرازيلي، في خطوة تهدف لتقليص اعتمادها على الواردات الأمريكية.

وتتجه القوى الاقتصادية الناشئة لتصبح وجهة جاذبة لرؤوس الأموال الباحثة عن ملاذات استثمارية بديلة عن الولايات المتحدة، ما قد يطلق حلقة إيجابية من التغذية الراجعة عبر خفض تكاليف الاقتراض وتمويل استثمارات منتجة تحفز النمو الاقتصادي، ما يدفع الأسواق المالية نحو مزيد من الارتفاع ويجتذب تدفقات رأسمالية إضافية.

ومع احتدام المواجهة التجارية بين واشنطن وبكين، تتصاعد الأهمية الاستراتيجية لأوروبا التي بمقدورها ترجيح كفة الميزان في صراع القوى العظمى، وقد أظهرت دول مثل ألمانيا قدرتها على التماسك وتبني الإصلاحات اللازمة عند مواجهة أزمات وجودية.

وخلافاً للاعتقاد السائد بأن الصراع بين العمالقة يؤدي حتماً إلى سحق الكيانات الأصغر، فإن العديد من الدول قد تنجح في استثمار الفرصة التي يتيحها تنافس القوى الكبرى لدفع عجلة الإصلاح الاقتصادي الداخلي وتكثيف التبادل التجاري في ما بينها، وهو ما بدأت تلوح بوادره فعلاً، ممهداً الطريق لبروز فائزين وخاسرين جدد في مشهد النظام التجاري العالمي الجديد ذي التعريفات المرتفعة.