«اشتر الآن.. ادفع لاحقاً»: هل هي فخ للدين؟

باتريك جنكينز
تتبنّى معظم الحكومات حول العالم سياسة «الشراء الآن والدفع لاحقاً»، ومع ارتفاع نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحتى اليابان، أصبح مبدأ الحصول على الأشياء قبل القدرة على دفع ثمنها هو السائد في القرن الحادي والعشرين.

وقد تتمكن دول من العيش بنفقات تتجاوز إمكانياتها لفترة من الزمن، خاصة إذا كانت ذات حكومة موثوقة أو تتمتع باحتياطي قوي من العملات الأجنبية، لكن بالنسبة للعديد من المستهلكين الذين يلجأون إلى خيار «الشراء الآن والدفع لاحقاً» ذي الشعبية المتزايدة، قد يبدو هذا الخيار محفوفاً بالمخاطر.

ووفقاً لجمعية «سيتيزينس أدفايس» الخيرية البريطانية ازداد عدد الأشخاص الذين طلبوا مساعدتها فيما يتعلق بخدمة «اشتر الآن، وادفع لاحقاً» في عام 2024 مقارنة بعام 2022 بأكثر من الضعف.

ويظهر هذا ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات الاقتراض في هذا المجال (الذي تصفه الجمعية بـ «اشتر الآن، وتألم لاحقاً»)، حيث يتضاعف بوتيرة تفوق نمو الصناعة نفسها. (على سبيل المثال، حققت شركة «كلارنا»، الرائدة في السوق، زيادة في الدخل التشغيلي بنسبة 47 % في النصف الأول من عام 2024 مقارنة بالعامين السابقين).

الميزة الكبرى لنظام «اشتر الآن، وادفع لاحقاً» هي أيضاً مصدر القلق الأكبر منه، فكما هو الحال مع كثير من الخدمات في عالمنا الرقمي المتزايد، فقد أزالت هذه الخدمة عوائق التمويل الاستهلاكي التقليدي، الذي يتطلب استكمال استمارات مطولة بدقة، وفحوصات ائتمانية مفصلة، والانتظار المحبط للحصول على الموافقة، لتبدو خدمة «اشتر الآن وادفع لاحقاً» سريعة وسهلة بشكل منعش، حيث يمكنك شراء أريكة قيمتها 3 آلاف جنيه إسترليني وتقسيطها على ثلاثة أشهر بمعدل ألف إسترليني شهرياً.

الأمر سريع وسهل، وإذا دفعت في الوقت المحدد، فلا توجد عادة فوائد (حيث تعتمد أرباح المقرض في الغالب على العمولات التي يتقاضاها من التجار). وبهذا المعنى، يمكن مقارنته ببطاقة ائتمان بثلاثة أضعاف مدة فترة السماح، ولكن من دون مزايا جانبية مثل التأمين على المشتريات أو نقاط المكافآت.

لكن الآثار السلبية الكبيرة هي احتمال تفاقم الديون بسرعة بسبب سهولة استخدام الخدمة. وعلى العكس من بطاقات الائتمان التي تتمتع بحد إنفاق محدد سلفاً بناء على درجة الائتمان الخاصة بك، لا يوجد حد أقصى للمبلغ الذي يمكنك إنفاقه باستخدام خدمة «اشتر الآن، وادفع لاحقاً».

وتراكم العديد من القروض المتداخلة من مختلف مقدمي الخدمات لدى الأشخاص المسرفين هو أمر مألوف. وبالطبع يزيد هذا بشكل كبير من احتمالية تعثر المقترضين في سداد قروضهم بهذا النظام، أو في سداد ديونهم الأخرى. ووفقاً لدراسة أجراها «بنك التسويات الدولية»، فإن معدل التخلف عن السداد لدى مستخدمي خدمة «اشتر الآن، وادفع لاحقاً» في الولايات المتحدة بلغ نحو 18 %، مقارنة بنحو 7 % لدى غير المستخدمين لهذه الخدمة.

وأطلق دعاة السوق الحرة صيحة تحذير من المخاطر، وأقنعت الممارسات المشينة لبعض مزودي الخدمة، مثل فرض رسوم تأخير عقابية وغير معلنة بوضوح، والتوسع السريع للصناعة، صناع القرار ولو بشكل متأخر، بإخضاع هذا المجال غير المنظم إلى حد كبير من التمويل الاستهلاكي، إلى سلطة الجهات المنظمة للسلوك المالي.

وأطلقت الحكومة البريطانية الأسبوع الماضي مشاورات تشريعية لإخضاع خدمة «اشتر الآن، وادفع لاحقاً» لإشراف هيئة السلوك المالي، وفي مايو الماضي، اتخذت الولايات المتحدة خطوة مماثلة.

وإحدى العلامات الأخرى على نضوج خدمة «اشتر الآن وادفع لاحقاً» تتضح من خلال طرق تمويلها، ففي الأسبوع الماضي، أبرمت شركة «كلارنا» صفقة مع صندوق التحوط «إليوت» لنقل قروض مستقبلية بقيمة 30 مليار جنيه إسترليني خارج ميزانيتها العمومية، ما قد يعزز نموها بشكل كبير، خاصة في سوقها الأهم، الولايات المتحدة.

وتتيح هذه الصفقة، التي تمثل نوعاً من التوريق الذي يحافظ على العلاقة بين المستهلك و«كلارنا» وينقل المخاطر إلى شركة إليوت، مقابل خصم غير معلن على قيمة القرض، مزيداً من التمويل.

غير أن المحرك الرئيسي لهذه الصفقة هو رغبة «كلارنا» في تخفيف الضغوط الرأسمالية، نظراً لأنه بنك يستقبل الودائع ويجب عليه الالتزام بمتطلبات رأس المال التي أصبحت أشد صرامة بموجب قواعد «بازل 3». وصفقة «إليوت» تشبه التوجه الذي سلكته البنوك الأوروبية في السنوات الأخيرة لعقد صفقات كبيرة لتحويل المخاطر.

وقد تم توريق بعض حزم قروض «اشتر الآن وادفع لاحقاً» في الماضي. على سبيل المثال، قامت شركة «باي بال» ببيع ائتمان بقيمة 40 مليار يورو إلى شركة «كيه كيه آر» العام الماضي. رغم ذلك، كانت تلك الصفقة أشبه بتوريق التمويل الاستهلاكي التقليدي، نظراً لسجل «باي بال» الطويل وسمعتها في تقديم قروض «اشتر الآن وادفع لاحقاً» منخفضة المخاطر، والتي لا تعتمد على الإحالات من التجار الذين يركزون على الحجم.

وإذا أصبحت صفقات إعادة التمويل هذه معياراً قياسياً في خدمة «اشتر الآن وادفع لاحقاً»، فلن تكون الجهات المنظمة للسلوك المالي فقط هي المعنية بمتابعة هذا الجزء المتصاعد من سوق الائتمان. وكما حدث في شراكات مجموعات رأس المال الخاص مع البنوك التقليدية، ينبغي على الهيئات التنظيمية مراقبة المخاطر المترتبة على القروض المتعثرة حتى لا تزعزع استقرار النظام، لأن القروض الفردية يمكن أن تشكل خطراً على المقترضين الذين يفرطون في الاقتراض.