أخذ فوستر يجوب المدن العربية والإسلامية القديمة ويدرس معمارها الخارجي والداخلي في التشييد، فكر في القاهرة القديمة والمزدحمة، ومسقط القديمة الواقعة على البحر، وحلب العريقة، وبعد جولاته مع فريقه في معظم المدن التاريخية، قام بدراسة معمارها خاصة من حيث واقع درجات الحرارة واضطراب الرياح ودفع الهواء وغيرها من التأثيرات المختلفة على الساكن، إلا أن مدينة شبام الحضرمية في اليمن والمبنية وسط الصحراء، هي التي ألهمته في بناء مدينة مصدر.
مانهاتن الصحراء
شبام التي بنيت في القرن ال16م، أول مدينة ناطحات سحاب بالعالم، ومثلت النموذج الأرقى للعمارة الطينية لا على مستوى اليمن بل الجزيرة العربية كلها: 500 منزل ككتلة واحدة من الطوب، ارتفعت حتى ال10 طوابق، فكانت جرأة هندسية في أن تطول العمارة الطينية لطوابق عدة، على أساس مبدأ البناء العمودي، ليطلق عليها الغرب:«مانهاتن الصحراء».
معمار شبام الذي شغل العالم، جمع بين كل فنون الحياة من فكر ومجتمع واقتصاد وسياسة وعمران، ولم يدخل في بنائه سوى الطين والحجر والخشب، ورغم مرور كل تلك القرون عليها فإن شبام الجميلة ما زالت تُشرق في تلك الصحراء.
ومن الناحية الهندسية في طول الطوابق، وفرت مباني شبام العالية مساحات هائلة من الظل الذاتي والمعكوس على أرضية الساحات، ليمنح المكان برودة في فصل الصيف الحار، كما أن فتحات التهوية في المباني يتخللها الضوء الطبيعي الساقط بأشكال هندسية، ما يخلق تعبيراً معمارياً متميزاً.
التاريخ المستدام
استلهم المعماري فوستر مدينة شبام، لبناء مدينة مصدر في أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، وقام بتصميم البناء ليصبح الاتصال مشتركاً بين الأثر التاريخي والمناخ الصحراوي، فالمباني التي تبنى جنباً إلى جنب فيها الكثير من التواصل الاجتماعي الملهم والتداخل العاطفي، كما الحال في شبام، لذا احترم فوستر التاريخ ليحضر الماضي من اليمن الأصيل مع مزاوجة مبدعة بين القديم والجديد، لبناء توازن بين الذاكرة التاريخية والمستقبل.
وكما نعلم بأنه حين كانت تُبنى المدن سابقاً، كانت تُشيد من أجل خلق مجتمع سليم، يكون الإنسان فيه نقي الذهن والروح، وهو ما استمر ويتجدد حتى وقتنا الحالي والذي تطور فيه البناء بأسلوب يعتمد على الطاقة الشمسية، كما هي مدينة مصدر، كي تصبح المدينة الأكثر كفاءة في استخدام الطاقة، بهدف تحقيق الاستدامة بأقل معدلات في عمليات هدرها، أما معدل انبعاثات الكربون فهو صفر.
تطويع
البناء أمر حضاري لكن من الأفضل للإنسان تطويع المباني الأثرية لأغراض جديدة، بدلاً من البناء بلا وعي، حيث بالإمكان وضع ظروفنا الخاصة وأدوات حياتنا المستخدمة في عمائرنا دون أن نفقدها.
وإن عدنا إلى مدينة مصدر نجد في جدرانها الكثير من الأشكال الهندسية لنوافذ مدينة شبام التي بنيت بمرونة هائلة ومع ذلك جرى توظيف الزجاج لدخول الضوء المطلوب من خلالها، ورغم اعتراض البعض على وضع الزجاج. إلا أن نورمان فوستر يصر على أن الزجاج مادة من المواد التي في حوزتنا، تنقل الضوء ولا تشعرنا بالعزلة عن العالم الخارجي.
الاتصال بالماضي
المدن الجديدة هي استجابة لاحتياجات الإنسان ولمعالجة التحديات، خاصة أن الإنسان أخذ يتكاثر على الكرة الأرضية بشكل أكبر، وأصبح يزداد تحضراً، لكن هذا لا يمنع من الاتصال بالماضي بدل القطيعة معه، فالعمارة قبل كل شيء مرآة المجتمع وتعبير عن القيم. ألا تعكس العمارة مفاهيمنا ورؤانا وثقافتنا؟ إذن كما نَبني تُبنى شخصياتنا وسلوكنا، لذا لا ضير في الذهاب إلى الماضي فهو إلهام للمستقبل بطريقة أكثر نبلاً.
معمارٌ عربي
أراد نورمان فوستر إحداث الاتصال بين الذاكرة والبيئة المستدامة، فاحترم حساسية المكان في التصميم والتخطيط لمدينة إماراتية واقعة في الصحراء، فاعتمد خياله الملهم من مدينة شبام العريقة ليضعها بتصاميمها في مدينة مصدر، ساعيًا بذلك إلى خلق مجتمع صحراوي خالٍ من الكربون، وذي معمار أثري نابع من سمات الثقافة العربية البحتة.
إن شاهدنا مصدر الآن من الأعلى، تبدو لنا وكأنها مكعبات بعد أن أوحت تلك المربعات الملتصقة والأسطح المتقاربة في شبام لفوستر، بأن يسترسل في الأهداف النبيلة للإنسان المحب لجاره وأهله، لتأخذه التصميمات إلى صياغة حياة أفضل قدر الإمكان، فنرى منازل مصدر متطابقة لأهداف اجتماعية أيضًا، بالإضافة إلى أن المدينتين تقللان من الحاجة إلى الصيانة وتوفران ثقوب الضوء بكثرة وتعتمدان على استخدام رمال الصحراء، وهي في الأساس هندسة تقليدية عربية في مدينة شبام العريقة.
المعمار قضية إنسانية
وحدها الأهداف النبيلة، الدافع الذي قاد لتشييد هذه المدينة من قبل شركة «مصدر» التابعة لشركة مبادلة للتنمية في أبوظبي، فتنقية حياة الإنسان عن طريق استخدام الطاقة الأبدية والمستدامة، وهي الشمس، والاعتماد على كل ما هو حيوي ومنتج وعلى المدى الطويل، مسألة ورؤية لا شك أنها من أسمى الرؤى. إذ أصبحت الطاقة أهم القضايا التي تشغل العالم، لأنها تؤثر مباشرة على حياة الإنسان وأمنه أمام التغييرات المناخية.
وأخيرًا فإن مدينة مصدر هي مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «إيرينا». فضلًا عن كونها مشروعًا مدعومًا من قبل منظمة السلام الأخضر وهي مؤسسة خيرية تهدف للحفاظ على البيئة، كما أنها جمعية دولية غير حكومية مقرها أمستردام في هولندا. كذلك فإن مدينة شبام التاريخية بسورها، أصبحت على قائمة التراث العالمي (اليونسكو).
حين فكر المعماري الإنجليزي نورمان فوستر في تصميم مدينة مصدر المستدامة بالقرب من إمارة أبوظبي وفي صحرائها، لتبنى بشكل مدروس لأهداف بيئية ولأغراض إنتاج الطاقة النظيفة، بحيث تتحقق وتتوافر بفضلها، القدرة على الحفاظ على المياه وتخزين طاقة الشمس وإدارة الكربون وإنتاج التكنولوجيا بدلاً من استهلاكها، وتوفير التهوية وتقليل الصيانة، وكذا وصولاً إلى خصائص أخرى.
فكل هذه التفاصيل كانت معلومة وواردة في ذهن فوستر، حسب الاتفاق مع شركة البناء، لكن ما كان يشغله كمعماري مثقف وفنان هو الشكل الخارجي للبناء، وكيف يجب أن تكون مدينة مصدر؟ وكيف يبرز هويتها العربية؟
أعمال فوستر
نورمان فوستر المولود في بريطانيا عام 1935م، درس الهندسة المعمارية في جامعة مانشستر، ثم تابع دراسته في جامعة ييل بالولايات المتحدة الأميركية، وسيرته مليئة بالمشاريع الهندسية الكبرى، كما نال جائزة «بريتزكر» وجائزة «أيه للعمارة» وجائزة «أميرة أستورياس للفنون». ومعروف عنه بأنه يحقق دائمًا الانتصار للعمارة الخضراء التي تساعد على خفض البصمة الكربونية. وهذه أهم أعماله:
متحف الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في أبوظبي، صممه فوستر ليكون مركزًا قصصيًا عاطفيًا يحكي قصة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، من خلال بنايات مستدامة تحمل الثقافة والتراث.
مظلة «ميناء فيكيس» في مدينة مرسيليا الفرنسية والواقعة على البحر المتوسط، وهي مظلة بسقف من هيكل رقيق كالورق، حاد الحواف وبمرآة تعكس محيط الحضور لخلق انطباع مرح، لتصبح المسألة وكأنها دعوة للاستماع.
قبة «الرايخستاغ» الخاصة بالبرلمان الألماني في برلين، والتي كانت قد دمرت في القرن الـ 19، إذ حولها فوستر إلى هيكل تصاميم منجزة بوساطة الزجاج الذي يعبر عن الديمقراطية الشفافة، وهي فعلياً انعكاس على سياسة ألمانيا المتحضرة.