اهتم خلفاء بني أمية في العمارة، بعد استقرارهم في بلاد الشام، متخذين دمشق عاصمة حضارية للإسلام كي ينطلقوا منها إلى العالم، لكن في التراث العربي المعتاد للعرب المقتدرين، فإن الصيد يكون في الصحراء، لذا كان الخلفاء والأمراء يختارون المواقع الصحراوية لبناء قصر صغير يقضون فيه بعض أيام السنة، ليستريحوا فيه ويتأملوا ويصيدوا ويستجموا... لكنهم كانوا حريصين على بناء جيد الصنع كما هي بيوت دمشق الخالدة، فاختاروا صحراء الأردن لبناء أغلب قصورهم الصحراوية المنعزلة.
حضارات
استوعبت صحراء الأردن كل الحضارات التي مرت عليها.. فمنها مر كثيرون فجازوا وديانها وأنهارها وخبروا نباتاتها وحيواناتها المغرية للصيد وطرقاتها المميزة، والتي في أغلبها كانت محطات لقوافل تجارية، لذا كل من يعبر صحراء الأردن ينبهر بتنوعها الطبيعي، فيعشقها ولا يتركها، لتبنى قصور متفرقة عدة لملوك وأثرياء من حضارات سالفة، تركوها وبقيت أثراً نستبين منها بعد البحث، طبيعة حياتهم وتاريخهم... فصحراء الأردن اشتهرت منذ الكتابات المصرية القديمة، وتحديداً في زمن تحتمس الثالث عام 1447 ق.م، حيث سميت منطقة الزرقاء الأردنية كما أتى في رسائل تل العمارنة بأنها «سارقي» وهو ما فسره المؤرخون بأنها الزرقاء. سيطر الفراعنة عليها وفي عهودهم المعروفة، بدءاً من عهد أخناتون الذي لم يهمه سوى تربية أبناء الزرقاء على دين آمون وآتون وإلى بقية الفراعنة الذين لم يهمهم سوى الجباية أو الضريبة من أهلها.
تمضي الأيام على هذه المدينة في تلك الفترة، لتمر بحرب أهلية قاسية، ويضطرب الأمن أمام حركات التمرد، ليهجم عليها البدو والذين اشتهروا باسم البيرو فينهبوها، ولم ينجدها أحد حتى استولى عليها الرومان في عهد «هيرودوس»، حيث دخلت جميع المناطق حينها في النفوذ الروماني، مع مملكة الأنباط و«بيريا»، وهي ولاية عربية نبطية ظلت تحت الحكم الروماني طويلاً.
قصر عمرة
أمر الإمبراطور «كراكلا» بتعمير الصحراء في الأردن خلال تلك الفترة.. وإصلاح طرقاتها، لتصبح مع الوقت ذات أهمية تجارية. أما في العهد الإسلامي، والأموي تحديداً، وبعد طرد الرومان، حيث رأوا مدى أهمية هذه الصحاري المميزة ومنطقة الزرقاء تحديداً كمدينة تعبر عليها قوافل الحج المتجهة إلى الحجاز والشام، لتنشط فيها الحركة التجارية وبقوة في موسم الحج، اهتموا بها كثيراً، فبنى فيها الوليد بن عبد الملك بن مروان قصراً صغيراً وجميلاً يسمى قصر «عمرة» خاصاً به، يقضي أوقاته به أثناء رحلات الصيد الشتوية، لذا نجد على جدرانه نقوشاً لطيور جميلة وحيوانات وزخارف نباتية ملونة.
المُشاهد لتلك الرسومات الجدارية على قصر عمرة، يتبين أنها كلها توحي برحلات الصيد في الصحراء، وأحصنة وغزلان ونمور وأسود، يطاردها رجال وأمراء، ويمكن أن نعتبرها توثيقاً لحيوانات وجدت في تلك المناطق وفي تلك الحقبة.
جص
وهناك أيضاً، رسوم تصور الخليفة الجالس على العرش مع مجموعة من مرافقيه، وثمة كتابة تشير إلى أحد الخلفاء «لم نستطع قراءة اسمه»، أما الرسومات في بعضها كانت مائية تم رسمها على الجص، والمنتشر في العالم كله آنذاك، فتمت تكسية جدران قصر عمرة بطبقة جصية بيضاء ومن ثم الكتابة والرسم على تلك الطبقات، وكلها من ألوان الطبيعة: البني والأزرق والأخضر والأصفر واللازورد، بدرجاتها الفاتحة والغامقة.
وبين النقوش الزيتية والنقوش المائية فإن حرية النقش على جدران قصر عمرة تؤكد خصوصية المكان واستخدامه السري ربما، لحرمة النقوش في العصور الإسلامية، على الرغم من وضوح التأثير الفني الروماني في المنطقة قبل دخول الإسلام لها، والتي كانت كفيلة لإفهامنا مدى التأثير بين الزمنين المتقاربين، فبعض الرسوم تعبر عن الأنشطة البشرية في الصحراء مثل: الصيد والأداء الموسيقي.. وغير ذلك من الجوانب، مثل ما يخص الحيوانات والأسماء والمياه الوفيرة التي تسبح فيها القوارب.
مشاهد مفاجئة
تبقى المشاهد المختلفة في القصر مفاجأة بعد اكتشافها، خاصة في الرسومات العائدة والمنفتحة بتعابيرها.. وبعض المشاهد لأساطير إغريقية وكذا الاستحمام والتمارين الرياضية، منها رياضة المصارعة، ومشاهد لسماء مزينة بالنجوم والكواكب وأجرام خاصة في أسفل القبة التي يطلق عليها قبة النجوم والأبراج، ونحن نعلم أن أغلب القصور الصحراوية للاستراحة عادة ما تكون بسيطة رغم جمالها. ويعاكس ما نرى من مفاهيم مع هذه التحفة المعمارية «قصر عمرة» المزخرف الفاخر والنادر في عين الصحراء رغم حجمه الصغير، الذي تم إهماله منذ وفاة صاحبه الخليفة الأموي، لتدفنه رمال الصحراء عبر القرون الطويلة، ولم نكتشفه نحن سوى في نهاية القرن التاسع عشر، ومن خلال بعثة علمية أثرية.
الحصن الأزرق.. من الأنباط إلى أميّة
بني هذا الحصن «أو القصر» في بقعة صحراوية أردنية تسمى الواحة الزرقاء التي تجذب أسراباً من الطيور، لأنه الطريق إلى المقصد لهجرتهم ذهاباً وإياباً، ورغم أن القصر سمي بالأزرق، يبقى حجره في جدرانه أسود، ذلك لأصله البازلتي والبركاني، وبُني على أنقاض قلاع ماضية في أصلها النبطي ومن ثم الروماني فالأموي وغير ذلك فيما بعد، ليضعوا بصماتهم فيه. وأضاف الأمويون الكثير لهذا الحصن/القصر، الواقع على الطرق التجارية القادمة من العراق والشام إلى الجزيرة العربية، ذاك لوفرة المياه العذبة فيها.
ويبقى هدف هذا البناء الضخم وعبر التاريخ بأبراجه وهندسته ومداخله، الاستراحة والصيد واللهو، وليتركز قاعدة عسكرية ومسرحاً للكثير من الأحداث فيما بعد.
هندسة مياه مبتكرة في «البرقع»
بنى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان هذا القصر الصحراوي الصغير، قرب المياه وقنوات الري التي كانت تنقل المياه إلى القصر بتقنية هندسية مبتكرة، وهي الواقعة حالياً في شرق الأردن. ولم يظل من هذا القصر وبسبب الزلازل، سوى بقايا، لكنه وكغيره من قصور بني أمية، كان مقراً لعزلة الخليفة واستجمامه، رغم بساطته وصغره، وكان له أهمية كبيرة في طبيعة موقعه خاصة في ظل وطبيعة علاقة بني أمية الطيبة مع القبائل والعشائر في بادية الأردن الشرقية. أما تسمية القصر بـ«البرقع»، فتعود إلى المنطقة نفسها، أي منطقة برقع.
«حرانه».. مربع يأبى الانهيار
استفاد الأمويون كثيراً من هذا القصر المنعزل في صحراء وادي حرانه، والصامد منذ القرن الثامن الميلادي حتى الآن، بسبب أحجار الصوان المنثورة فوق سطحه، ولم ينهر كبقية قصورهم الصحراوية، ربما لأن أسباب بنائه كانت دفاعية وعسكرية أكثر من كونها للاستراحة والصيد. لذا فإن التربيع في البناء العسكري دليل الدفاع وغاية التصدي لرماة السهام والمهاجمين في حالات الحرب.
بقي القصر مقصداً للباحثين عن الماضي، لأنه سليم بغرفه الـ 61 وإضاءاته الذكية التي تعبر الجدران، وبدرجاته الحجرية وزخارفه النباتية والمخازن وساحته المكشوفة... ليوضح مدى تطور وجمال العمارة الأموية.
واجهة «المُشتى»
حين يزور السائح العاصمة الأردنية عمّان، يكتنفه السكون منبهراً وهو في طريقه الصحراوي الجنوبي للمطار، حيث يلفت نظره وهو في وسط هذا الصحراء قصر أفقي البناء، يتميز بمداخله وأضلاعه ونقوشه، ورغم سقوط بعض أحجاره حوله، لكنه يبدو كتحفة فنية من الأحجار. إنه القصر الأموي المشهور باسم «المُشَتَّى» والذي بني من أجل قضاء الشتاء فيه للأمير الوليد بن يزيد الثاني بن عبد الملك بن مروان، الذي نُفي من البلاط الدمشقي الأموي ليختلي بنفسه في هذا القصر البعيد عن الأعين.
يزدحم هذا القصر المبني في تلك العهود الأموية، بزخارفه المعبرة بطوبه المشوي عن الحيوانات الصحراوية، عن الجمل العربي والغزلان والصيد في البراري في كل أجزاء القصر بجدارياته المميزة، ورغم كل هذا الجمال الذي يطوفنا، تبقى الواجهة الخارجية لهذا الحصن الصحراوي في غير مكانه.
فقد نقلت هذه الواجهة التاريخية المميزة بضخامتها المنحوتة والمنقوشة إلى ألمانيا، لتتربع في متحف «بيرغامون» الشهير في مدينة برلين بطوله الذي يبلغ 33م وارتفاع 5م، ذلك بعد أن اكتشفه الألمان عام 1840م في الفترة التي كان الأردن تابعاً للإمبراطورية العثمانية، إذ قام السلطان عبد الحميد الثاني وتقديراً لصداقته مع الألمان، بإهداء الواجهة عام 1903م للإمبراطور «فيلهلم الثاني».
والشاهد أن حضور الواجهة الفريدة من نوعها هناك عظيم لكل من يشاهدها، لما تصطبغ فيها من نقوش إسلامية وفي فتراتها الأولى، أي في القرن الثامن الميلادي، حيث تتجلى فيها رسومات الأرابيسك المعبرة عن فنون العمارة المنتمية إلى الهوية العربية قبل الإسلام وبعده، وهناك أكثر من 5500 نقش وكتابة على الجدران.
7
قصر عين السل الأموي الصحراوي في محافظة الزرقاء، يعود بناؤه إلى عصر بني أمية، بحمامات واسعة، لكنها خالية من الرسوم، وهناك سبع غرف بإطلالات مكشوفة.
8
من أجمل ما بناه الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان في صحراء الأردن قرب مدينة الزرقاء، قصر حمام الصرح، ويعود بناؤه إلى أوائل القرن 8 م.
10
ساحة جميلة وقاعة للعرش وزخارف فسيفسائية ونحت، كل ذلك في قصر القسطل الصحراوي الذي بناه الوليد الثاني، ويبعد عن عمّان حوالي 10 كيلو مترات.