ازدانت قصيدة «الخل الوفي» لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي التي نشرت مؤخراً، بوصوف الخلة والصداقة وحكم آداب الصحبة، وما تقتضيه من وفاء، وجادت بقيم العشرة والرفقة في أقصى معانيها.
ويحفل التاريخ والأدب الإنساني بالقيم والقصص التي تقدس الصداقة والوفاء لهذا القرين النبيل، الذي يرتقي أحياناً لمراتب عالية، وفي موروثنا الأدبي الكثير من القصص، وقد أفرد أبوحيان التوحيدي كتاباً كاملاً لأدب الصحبة، أسماه «الصداقة والصديق» كتب في تقديمه: «سُمع مني في وقت بمدينة السلام كلامٌ في الصداقة، والعشرة، والمؤاخاة، والألفة، وما يلحق بها من الرعاية، والحفاظ، والوفاء، والمساعدة، والنصيحة، والبذل، والمواساة، والجود، والتكرم، مما قد ارتفع رسمه بين الناس، وعفا أثره عند العام والخاص، وسُئلت إثباته ففعلت، ووصلت ذلك بجملةٍ مما قال أهل الفضل والحكمة، وأصحاب الديانة والمروءة؛ ليكون ذلك كلُّه رسالة تامة يمكن أن يستفاد منها في المعاش والمعاد..».
ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل، فهذه الخصلة الأصيلة خصلة من خصال أهل المروءات والكرم، وتحمل قصيدة «الخل الوفي» حمولات دلالية ومعنوية لتلك الشيم، استنبطت من التجربة والتاريخ وعيون الأدب صفات هذه الألفة في أجمل حالاتها، يبتدرها سموه بقول فصل بلسان توجيهي، يعرف خبايا النفس البشرية، ويُنزل الناس منازلهم، يقدم من خلالها رسماً جلياً للإنسان في كل حالاته، حيث يكثر الأصدقاء المزيفون وقت النِعم، وفي الشدة تبرز معادنهم الأصيلة والحقيقية، إذ لا شيء يكشف الإنسان أكثر من الزمن، تماماً كما «لا خير في خل يخون خليله/ ويلقاهُ من بعد المودة بالجفاء».
والخُلَّة والمخاللة تعتبر من أعلى درجات الصداقة والمحبة، حيث قال الحافظ ابن حجر: «الخليل هو الصديق الخالص، الذي تخللت محبته القلبَ فصارت في خلاله، أي في باطنه».
وتقرأ الأبيات الزمن، كما تقرأ بشكل دقيق أهله، من تتلقفهم الأهواء والأمزجة بعيداً عن الحصافة، في منحى أقرب ما يكون إلى السذاجة، يصدقون كل عابرٍ، ويلبسونه عباءة الصداقة والوفاء ويدثرونه بثوب الألفة وهو منها براء.
فأهل «الفزعة» نجوم الزمن الفارق ومحطاته الفاصلة، وقليلٌ ما هم تماماً كالخيل الأصيلة وإن كثرت في عين من لا يجربُ كما أبدع حدس المتنبي قبل ألف عام.
وهنا يقع الشاعر على الشاعر كما يقعُ حافر الخيل على الحافر؛ و«الـصِّديقْ الصِّدْق مثلْ وصوفْ خيلْ/ ونــادرهْ فــي الـخيلْ لـي مـاتَخْلفي».
وهو الشاعر الفارس العارف بالشعر والخيل، يضمن المعنى روح الوصف ونبل المقصد والرسالة الأصيلة للوفاء للصداقة، التي اعتبرها الشاعر الإنجليزي لورد بايرون حباً دون أجنحة، فيما وصفها الفيلسوف الصيني منسيوس بأنها «عقل واحد في جسدين»، وهو وصف يتقاطع مع توصيفاتها عبر العصور وما تقتضيه قيمها من مؤاخاة ونصح ومشورة، إذ «إن أخاك الحق من كان معك/ ومن إذا ريبُ الزمن صدعك/ شتت نَفْسَهُ معك ليجمعك».