كتاب «المجالس الأدبية عند العرب»، دراسة في ثوب موسوعي، يحاول فيها محمد جميل الحطاب الإحاطة بهذه الظاهرة التي أثرت الثقافة العربية، وأغنتها في حقل الشعر خصوصاً، عبر فتح نوافذ الماضي، واستثارة مكنوناته.
يرى الكاتب أن شعر هذه المجالس قدم للباحثين معلومات قيمة، كشفت مظاهر الحياة الاجتماعية في عصرها، وسلطت الضوء على ما كان يدور فيها من أحداث بتنوع روادها على اختلاف ثقافتهم، كاشفة بالتالي عن الأنشطة الفنية، والنقدية، التي أسهمت على تواضعها بتمييز جيد الشعر من رديئه، ما دفع إلى تحسينه، وبالتالي عدت مختبراً أدبياً حقيقياً.
يتوقف الكاتب عند تعريف المجلس، والفرق بين المجلس والنادي، إذ يطلق الأول على المكان والجماعة، أما النادي فلا يطلق على المكان إلا إذا كان الناس مجتمعين فيه، كما يعرج على مفهوم الصالون الأدبي، الذي عرف في بداية الدولة الأموية، وازدهر في عهد الدولة العباسية، إذ كان يستقبل العلماء والأدباء والشعراء والمفكرين.
وسيلة تعبير
وفي الفصل الثاني، يورد الكاتب لمحة موجزة عن القصيدة العربية الجاهلية، والمعلقات، لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن أسواق العرب عامة، وسوق عكاظ خاصة.
ويقول: كان الشعر في عصر البطولة الوسيلة الوحيدة للتعبير الأدبي عن الأفكار، وكانت القصيدة الطراز الأمثل والأوحد في الفن الشعري، ويحكى أن المهلهل المتوفى سنة 531 ميلادية، وهو بطل تغلب في حرب البسوس، كان أول من نظم القصائد الطوال.
ويشير الكاتب إلى أن المعلقات التي احتلت المقام الأول بين قصائد الجاهلية، ولا تزال لها الحظوة الكبرى، نالت قصب السبق في سوق عكاظ، التي كانت تقام سنوياً، فجاءت كناية عن مجمع أدبي تؤمه فحول الشعراء.
ويعرض الكاتب في الفصل الثالث تحت عنوان «الشعر في بلاط الغساسنة والمناذرة» ازدهار الحيرة أيام عمرو بن هند، الذي جعلها موئل الأدباء والشعراء، وأمّ مجلسه أعظم الشعراء المعاصرين، مثل طرفة بن العبد، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، بعد أن أدرك أن الشعراء هم زعماء الرأي العام يديرون دفة الدعاية كيف شاؤوا.
على الضفة الأخرى، كان الغساسنة جيران «بيزنطة» أرقى ثقافة، وقد وفد إلى أمرائهم بعض شعراء الجاهلية، فأحسنوا وفادتهم، وبالغوا في إكرامهم، ومنهم لبيد والنابغة الذبياني، شاعر البلاط عند المناذرة، وشاعر يثرب «المدينة المنورة» حسان بن ثابت.
أسواق أدبية
ويفرد الكاتب فصلاً لسوق المِربَد في البصرة، وهو الذي ورث عكاظ وما يتمتع به من ميزات، وكان في الأصل سوقاً للإبل، حتى إذا كان عهد الأمويين صار سوقاً عاماً تُتخذ فيه المجالس، ويخرج إليه الناس، كلٌ إلى فريقه وحلقته وشاعره، فالمربد معرض لكل قبيلة تعرض فيه شعرها ومفاخرها.
ويتحدث الكاتب عن الأثر الذي تركه المربد في اللغة العربية، ألفاظها، وأساليبها نتيجة اختلاط العرب بالعجم، فهو يشبه عكاظ في أمر الشعر وحلقاته، بل يزيد عليه، فلكل شاعر حلقة، ولكل متهاجيين مجلس، ولكل قبيلة نادٍ وشاعر يذود عنها، فكان لجرير حلقة، وكذلك للفرزدق وذي الرّمّة وآخرين.
وفي أواخر العصر الأموي والقرن الثاني للهجرة، نضجت حركة المربد الأدبية والعلمية نضجاً يتسق مع ما وصلت إليه الدولة، وكان من أبطال المربد أكبر النحاة، ورواة الشعر والأدب، والشعراء.
ويضيء الكاتب على المجالس الأدبية لمعاوية بن أبي سفيان، إذ كان يستقدم الشعراء والأدباء والخطباء، ويستمع إلى قصائدهم ومناظراتهم ويشارك فيها بشعره، كما يتحدث في فصل آخر عن مجالس عبد الملك بن مروان، التي جمعت الثالوث الشعري جرير والفرزدق والأخطل، وآخرين بينهم كثيّر عزّة.
كما يعرج الكاتب على العصر العباسي، ومجالس هارون الرشيد والمأمون، حيث شهدت عاصمة الخلافة حركة أدبية، وتشجيع الخلفاء لأهل العلم والأدب حتى كاد مجلس الخليفة يصبح منتدى أدبياً يُستدر فيه قرائح الشعراء والأدباء الذين يفدون إليه من كل أصقاع الدولة المترامية.
وخصص الكاتب فصلاً لمجالس سيف الدولة الحمداني، الذي أحاط نفسه بحلقة من الأدباء والمفكرين، ضمت الفيلسوف أبا نصر الفارابي، والمؤرخ أبا الفرج الأصفهاني، والعالم اللغوي ابن خالويه، والشاعر أبا فراس الحمداني، زد على هؤلاء جميعاً الشاعر الأشهر أبا الطيب المتنبي، كما يعرض الكاتب لمجالس بني عباد في الأندلس، الذين استطاعوا أن يجمعوا في دولتهم الزعامة السياسية والزعامة الأدبية، ولم يغفل في الوقت عينه مجالس شخصيات أدبية نسائية، مثل سكينة بنت الحسين وولّادة بنت المستكفي.